تفسير قوله تعالى: (أمّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً)
قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:٩]، (أمن هو) هذه الكلمة فيها قراءتان: قراءة نافع وابن كثير وحمزة: {أَمَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ}، وقراءة الجمهور: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ}، وفيها معنيان: الهمزة هنا إما بمعنى الدعاء فتكون بمعنى: يا من هو قانت آناء الليل! ساجداً وقائماً يدعو ربه، ويرجو رحمة الله عز وجل، تمتع بعبادتك الله سبحانه تبارك وتعالى في الدنيا، واستمتع بالجزاء الحسن يوم القيامة، فكأنه يقول: إن الكافر عبد غير الله وضل وأضل فقيل له: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا} [الزمر:٨]، والذي هو قانت لله سبحانه، وداعٍ ربه، وساجد ومصلٍ، وعابد لله، تمتع بعبادتك فإنك من أصحاب الجنة.
فهذا معنى من المعاني على قراءة (أَمَن هو)، والمعنى الآخر: (أمّن) فهي همزة الاستفهام، وكأنه يقول: هذا الكافر خير أم المؤمن؟ فكأن المعنى في قوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:٩] هل هذا خير أم الإنسان الذي كفر بالله سبحانه؟ فهذا على قراءة (أمَّن).
قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} [الزمر:٩]، والقانت هو المطيع الخاشع والمذعن لله سبحانه تبارك وتعالى، الذي يطيع ربه سبحانه وهو قانت قائم في صلاته.
{آنَاءَ اللَّيْلِ} [الزمر:٩] أي: ساعات الليل.
{سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر:٩] أي: يراوح بين القيام وبين السجود، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أنه سئل عن أحب الصلاة وأفضل الصلاة فقال: (طول القنوت)، وهذا الحديث في مسند أحمد أي: طول القيام.
وروى الإمام مسلم في الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصلاة طول القنوت).
وهذه الهيئة من أفضل الهيئات في الصلاة، وأفضل منها السجود، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في السجود: (إنه أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فحري أن يستجاب له)، والسجود أفضل وأخشع هيئة يكون عليها العبد، ولكن القيام فيه فضل بسبب الأذكار، فالسجود لا يجوز فيه قراءة القرآن فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن القراءة في الركوع وفي السجود، ولكن في القيام يجب عليك أن تقرأ فيه القرآن فصار أشرف ما يكون في القيام هو قراءة القرآن، وأفضل هيئة يكون عليها العبد السجود فذكر الله الهيئتين {سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر:٩].
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوم الليل حتى تتورم قدماه، فقيل له: لمَ تفعل ذلك؟ فقال: (أفلا أكون عبداً شكوراً)، فكان يقوم من الليل وقتاً طويلاً كما أمره الله سبحانه في قوله: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:٢ - ٤]، فكان فرضاً عليه فقام قياماً طويلاً، ثم نسخت الفرضية فلم يترك القيام صلوات الله وسلامه عليه بل جعلت قرت عينه في الصلاة والتقرب إلى الله سبحانه تبارك وتعالى.
وكأن من أفضل ما يكون أن تقرأ قراءة طويلة في الصلاة، وهذا إذا كنت وحدك، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم أحياناً بسورة البقرة، وسورة النساء، وسورة آل عمران، وذات مرة قام صلى الله عليه وسلم فقرأ في ركعة واحدة بسبع سور طوال من كتاب الله سبحانه تبارك وتعالى، قرأ بها صلوات الله وسلامه عليه في ليلة واحدة وهذه الهيئة ليس كل إنسان يطيقها؛ ولذلك فعلها النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة النافلة في قيام الليل، لكن في صلاته بأصحابه كان يطيل إطالة لا يشق عليهم بها صلوات الله وسلامه عليه، فيقرأ في صلاة الفجر من الستين إلى السبعين آية أو أقل من ذلك أو أكثر من ذلك صلوات الله وسلامه عليه، ويقرأ بما لا يشق على الناس.
وجاء في الحديث نفسه أن رجلاً بعد أن سأله عن أفضل الصلاة قال: (أي الجهاد أفضل؟ قال: من عقر جواده، وأريق دمه) أي: جاهد في سبيل الله بنفسه، وأفضل شخص من فقد جواده وقتل في سبيل الله فهذا أفضل ما يكون، (قيل: يا رسول الله! أي الهجرة أفضل؟ فقال عليه الصلاة والسلام: من هجر ما كره الله عز وجل)، وهي الهجرة الدائمة، أما الهجرة من مكة إلى المدينة ففرضت في وقت معين، وبعد ما فتحت مكة انتهى الفرض؛ لأنه قبل الفتح كانت الهجرة من مكة إلى المدينة واجبة وفريضة على كل مسلم.
فالهجرة المقصودة في الحديث هي هجرة الذنوب والمعاصي، فتهجر ما يكره الله سبحانه تبارك وتعالى.
(قال الرجل: يا رسول الله! فأي المسلمين أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده)، وهذا أفضل المسلمين، الإنسان الذي يأتمنه الناس على دمائهم وعلى أعراضهم، والذي لا يخاف منه الناس، ولا يخافون بطشه وبأسه، ولا يخافون غدره وخيانته، الذي يأتمنونه فهم يسلمون من لسانه فلا يتكلم فيهم بما يسوءه ويسلمون من يده فلا يؤذيهم.
(قال: يا رسول الله! ما الموجبتان؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئاً دخل النار)، فالذي يموت على التوحيد وجب له أن يدخل الجنة، هذه موجبة، والموجبة الأخرى من أشرك بالله وهذه التي تلزمه أن يكون من أهل النار والعياذ بالله.