للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون)]

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

قال الله عز وجل في آخر سورة الزخرف: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ * سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ * وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:٧٨ - ٨٤] في هذه الآية يخبر الله سبحانه وتعالى أنه جاءنا بالحق من عنده، وأن أكثر هؤلاء الكفار المشركين لا يؤمنون، بل يكرهون هذا الذي جاء به النبي صلوات الله وسلامه عليه من عند ربه، وسبب كراهتهم لذلك أنهم نفسوا على النبي صلى الله عليه وسلم ما جاء به وحسدوه، وتغيظوا عليه كيف يكون رجلاً منهم وليس هو بأكبرهم سناً، وليس بأغناهم وليس هو الزعيم فيهم، ومع ذلك ينزل عليه هذا القرآن دون غيره؟! قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:٣١].

يقول الله عز وجل: ((لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ)) يعني: الذي أنزل عليه هو هذا القرآن وهو الحق الذي جاء من عند رب العالمين، فاعمل به وانظر فيه، وانظر إلى المعجزة التي جاءت من عند رب العالمين، ولا تنظر على من نزلت هذه المعجزة، ولو نظروا نظرة صحيحة لعرفوا أن هذا هو أحق من ينزل عليه القرآن؛ فهو الأمين وهو الصادق صلى الله عليه وسلم بقولهم وبشهادتهم، فهم الذين استأمنوه، وهم الذين لقبوه بالصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه، وعلموا أنه أفضلهم وأكرمهم وأشرفهم حسباً ونسباً عليه الصلاة والسلام، فكونهم يبغضون ما جاء من عند رب العالمين فالله علم منهم ذلك، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم وقد كذبوه: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:٣٣] يعني: لا تحزن، إذا كانوا يقولون: أنت كاذب، فإنهم في الحقيقة لا يكذبونك أنت، فهم يقولون: إنك أنت الصادق الأمين، ولكنهم يجحدون، يعني: يتكلمون بما يعرفون في أنفسهم أنهم كاذبون فيه، فالذي يأتي للنبي صلى الله عليه وسلم ويقول: أنت كاذب هذا جاحد؛ لأنه يكذب الحق الذي علم أنه حق، وفرق بين الإنكار والجحود، فإنكار الشيء: أن تنكر ما لا علم لك به، فتنكر ما لا تعلمه، أما الجحود فأنت تعلم هذا الشيء ومع ذلك تنفيه وتنكره، فلذلك ربنا سبحانه يصف هؤلاء بأنهم جاحدون، يجحدون ما جاء من عند الله، فهم مقرون في أنفسهم أن هذا لا يمكن أن يكون كلام البشر وإنما هو كلام رب العالمين؛ ولكن لحسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم يجحدون ما جاء به، فيظهرون الإنكار مع وجود الإقرار في قلوبهم والاعتراف بأن هذا حق وأن هذا من عند رب العالمين سبحانه، فقال لهم سبحانه: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:٧٨]، فكرهوه؛ لأنه يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحرم عليهم أشياء كانوا يستحلونها من خبائث وخمر وأكل ميتة وغير ذلك، فحرم عليهم أشياء كانت في أموالهم، فلذلك كرهوا هذا الحق، والإنسان في الغالب حين تقول له: لا تفعل كذا لشيء يشتهيه ويريد فعله فإنه يتغيظ ويقول لك: ولماذا لا أعمل هذا الشيء؟ وكيف تأمرني وتنهاني وأنا أفعل هذا الأمر طيلة حياتي الماضية؟ هو لا ينظر إلى المصلحة التي تتعلق به في أمر الدين، وإنما ينظر إلى أنه اعتاد هذا الأمر وأنه يهواه، ولذلك قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:٢٣] أي: مثل ما عمل آباؤنا نعمل نحن، فكرهوا الحق ليس لكونه حقاً أو لأنهم أنكروه في قلوبهم لا، ولكنهم خشوا أن تضيع منهم رئاستهم، وخشوا أن يتحكم فيهم النبي صلى الله عليه وسلم فيأمر وينهى، فرفضوا ذلك وردوه وكرهوه لهذا المعنى.

<<  <  ج:
ص:  >  >>