[تفسير قوله تعالى:(ولقد آتينا موسى الهدى هدى وذكرى لأولي الألباب)]
قال تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ}[غافر:٥٣]، في هذه الآية يذكر الله عز وجل كتاب موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، مذكراً للمؤمنين أن هذا الكتاب -القرآن العظيم- ليس أول كتاب فيه الشريعة وفيه الموعظة وفيه الهدى والنور من عند الله تعالى، فقد جاء الكتاب لبني إسرائيل قبلهم، وقد تكرر هنا المعنى في كثير من آيات القرآن، والسبب في ذلك: أن يتدبر المؤمنون ويعتبروا أن الشريعة إذا جاءت من عند الله فهي هدى، وهي نور؛ ولكن يهدي الله عز وجل بها من يشاء، وينير بها قلب من يشاء، فلا يغتروا بما جاءهم من هدى القرآن ونوره من عند الله سبحانه.
وليس المعنى: أن حافظ القرآن قد حاز الهدى والنور بحفظه له من دون الإكثار من تلاوته والعمل به، فإنه لم ينتفع اليهود بالتوراة وقد حملوها فكانوا كالحمار يحمل أسفاراً، ومما يبين عدم استفادتهم من الهدى والنور الذي في التوراة: ما عُلِم أن كل نبي قد حذر قومه من المسيح الدجال، وكان اليهود ممن حذروا منه، ومع ذلك فإن أكثر أتباعه اليهود، فهل نفعتهم التوراة؟ وهل نفعهم تحذير موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام؟ فالغرض الموعظة للمؤمنين، قال تعالى مخاطباً اليهود:{خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ}[البقرة:٦٣]، فلم يأخذوا ولم يعملوا، وقيل ذلك للمؤمنين حيث أمروا أن يتمسكوا بكتاب الله سبحانه، قال النبي صلى الله عليه وسلم (تركت فيكم ما إن تمسكتم به دخلتم الجنة) وفي رواية: (تركت فيكم الثقلين إذا تمسكتم بهما فلن تظلوا بعدي أبداً: كتاب الله سبحانه وتعالى فيه الهدى والنور)، فقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم لنا ما إن تمسكنا به لن نضل بعده أبداً وهو كتاب الله سبحانه؛ إذ إن كتاب الله الذي جاء من عند الله فيه الهدى وفيه النور، وكأن الله يذكرنا أنه آتى بني إسرائيل الهدى والتوراة فيها هدى ونور فلم ينتفعوا بها، فاحذروا أن تكونوا مثلهم، فقد استحقوا أن يلعنهم الله وأن تلعنهم أنبياء الله، قال تعالى:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[المائدة:٧٨ - ٧٩]، فإنهم لما جاءتهم التوراة تنهاهم عن المنكر وتأمرهم بالمعروف، عكسوا الأمر فعبدوا غير الله ولم يتناهوا عن المنكر، فاستحقوا لعنة الله.
فلذلك عندما يذكر الله عز وجل أن يوم القيامة لا ينفع الظالمين معذرتهم، يراد بالظالمين اليهود الذين لم ينتفعوا بالتوراة، إذ لم ينتفع منهم إلا القليل، وقوله تعالى:{وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ}[غافر:٥٣]، أورثناهم، أي: جعلنا فيهم التوراة، ومعلوم أن ميراث الأنبياء هي الكتب السماوية التي تنزل من عند الله سبحانه وتعالى، وقد ذكر النبي صلوات الله وسلامه عليه ذلك فقال:(إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)، قوله:(إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً)، أي: أن ما يتركونه صدقة، فإذا مات النبي جمع المال الذي يتركه وتصدق به، وإنما الميراث الحقيقي للأنبياء هو هذا القرآن العظيم، فهو العلم الذي جاءوا به من عند الله، فقوله:(وَأَوْرَثْنَا) أي: جعلنا إرث النبي فيهم هذا الكتاب، وهو التوراة.
وقوله تعالى:(هُدًى) أي: يدلهم على الطريق، (وَذِكْرَى) أي: موعظة وتذكير، (لِأُولِي الأَلْبَابِ) أي: ليست لكل الناس، ولكن لمن كان له قلب يعقل آيات الله وينظر ويعتبر بها.