تفسير قوله تعالى: (وأوحينا إلى موسى أن أسرِ بعبادي وكنوز ومقام كريم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد إلا إله الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الشعراء:٥٢ - ٥٨].
ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات قصة خروج موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام مع بني إسرائيل من مصر، وكيف أهلك الله عز وجل فرعون وجنوده شر هلاك، فآتاهم العذاب من حيث لا يتوقعونه، فأمر الله عز وجل موسى أن يسير بعباده في الليل فقال: {أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الشعراء:٥٢].
وأخبره أن فرعون سيتبعهم، وكان موسى قد ظن أن فرعون لا يتبعه؛ لكونه أذن لهم في الخروج من مصر، فخرج ومن معه، فأوحى الله إليه بذلك؛ حتى لا يخاف، وليطمئن أن ربه سبحانه معه.
قال تعالى: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الشعراء:٥٣].
أي: من يجمعون الناس بعد أن تنبه فرعون لخروجهم، ويقول الجامعون: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} [الشعراء:٥٤ - ٥٥].
فجمع الناس بهذه المقولة: إن بني إسرائيل عدد قليل قد خرجوا {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:٥٥ - ٥٦].
يعني: عددهم وقوتهم لا تقارن بعددنا وقوتنا؛ فلذلك سنذهب إليهم ونرجعهم إلى هنا بقوتنا وعددنا.
قال الله عز وجل، {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الشعراء:٥٧] أي: خرج فرعون وجنوده فتركوا أرضهم وديارهم، وتوجهوا إلى البحر الأحمر متبعين لموسى عليه السلام ومن معه.
قال سبحانه: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ} [الشعراء:٥٧ - ٥٨].
يعني: كانت لهم في هذه الديار الجنات والبساتين، وعيون الماء فضلاً عن أن لهم من الله عز وجل هذا النهر العظيم نهر النيل، والكنوز والمقام الكريم الذين كانوا يعيشون فيه، فأخرجهم الله عز وجل من هذا كله، وكنوز الأرض كثيرة موجودة في مصر، وكان الفراعنة يستغلونها، ويستخرجون الذهب ثم يصنعون منه الحلي، ويجعلونه مع الموتى في قبورهم، ويصنعون أشياء كثيرة من ذلك.
فأخبر الله عز وجل أنه أخرجهم من هذه الكنوز، ومن مقامهم الكريم الذي كانوا يقومونه في أرض مصر.
والمقام الكريم: هي المجالس، أو الأرض نفسها، أو المنابر التي كانوا يتكلمون فيها أمام الناس، والناس تذعن لهم في ذلك.
فأخرجهم الله عز وجل مما أعطاهم من نعم، وخرجوا متجبرين متكبرين جاحدين لربهم سبحانه مطاردين نبي ربهم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
قال الله سبحانه: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:٥٩].
وقال الله سبحانه وتعالى في سورة القصص: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} [القصص:٥ - ٦].
فكان بنو إسرائيل مستضعفين، وكانوا يتبعون موسى عليه الصلاة والسلام، فأراد الله عز وجل أن يري خلقه قدرته وقوته في أن يضع المستكبرين ويذلهم ويرفع المستضعفين ويعزهم بإيمانهم، وبنصرتهم لدين ربهم سبحانه.
فإذا به يورث هذا الذي تركه فرعون من أموال وكنوز لبني إسرائيل، فمكن لهم وأورثهم ذلك، قال: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:٥٩].
ثم رجع لتفصيل هلاك فرعون فقال: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء:٦٠].
يعني: فرعون اتبع موسى ومن معه في وقت شروق الشمس عند الضحى، وكان من المفترض أن أصحاب موسى قد خرجوا بالليل أن يسبقوهم ويفوتهم، لكن فرعون بما معه من خيل سريعة أدركوهم أو كادوا، فقال: {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى} [الشعراء:٦١] وهم فزعون خائفون، {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:٦١].
وأما موسى عليه السلام فهو مطمئن بربه سبحانه وتعالى؛ لأن الله تعالى يطمْئِن قلوب أنبيائه وأوليائه.
قالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:٦١].
يعني: أوشكوا على أن يلحقوا بنا، فكل فريق يرى خصمه أمامه.
قال تعالى حكاية عن موسى: {قَالَ كَلَّا} [الشعراء:٦٢] وهي أداة ردع وتسكيت، أي: اسكتوا ولا تتكلموا في ذلك؛ فإن الله عز وجل هو الذي ينصرنا.
{قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:٦٢]، فمن شدة الفزع كأنهم نسوا ربهم سبحانه، ولذلك لم يقل موسى: إن معنا ربنا سيهدينا، وإنما قال: إن معي، فأنا مطمئن بربي، وواثق به حتى وإن تزلزتم وتزعزعتم وشككتم، فربي سيهديني إلى الطريق.
فالله عز وجل يهدي موسى عليه السلام على ما يشاء.