[تفسير قوله تعالى: (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون)]
قال الله: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات:١٤٧]، أرسله الله عز وجل إلى قومه أو إلى غيرهم، رجع إلى قومه يدعوهم وكانوا مائة ألف، أو أرسله إلى غيرهم سبحانه وتعالى.
وقال سبحانه: {فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ} [الصافات:١٤٨] يعني: في هذه الدنيا، متعناهم بإيمانهم فيها إلى حين، فقد استجابوا لدعوته، والله سبحانه وتعالى لم يحرمه من خير، وهذا فضل الله عز وجل، ولو شاء لقبضه على ذلك فكان مليماً وآتياً بما يلام عليه عند الله، ولكن الله تكرم عليه سبحانه وأرسله مرة أخرى؛ ليدعو إلى الله سبحانه وتعالى.
وذكر الله عز وجل ذلك في سورة الأنبياء، إذ ذكر أنه ينجي المؤمنين، فالإنسان المؤمن يتعلم من هذه القصة أنه لا يترك أمر الله سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يدري ما يكون وراء ذلك، ولا يترك دين الله سبحانه وتعالى والدعوة إليه سبحانه، بل يقتدي بأنبياء الله الذين دعوا وصبروا في دعوتهم إلى الله سبحانه، والله قادر على التغيير، والإنسان الذي تراه يستحق العذاب قد يرى الله عز وجل أنه لا يستحق ذلك، فيرفع عنه العذاب الذي تتوهم أنه من أهله، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، فلعل هذا الإنسان الذي أدعوه خير مني، ولعلي أراه الآن عاصياً ويكون مؤمناً تقياً بعد ذلك، ولعل الإنسان ينظر إليه أنه يستحق النار، وهو عند الله عز وجل يستحق أن يكون من أهل الجنة بما قدر الله عز وجل أن يفعله بعد ذلك.
وفي سورة القلم يقول الله للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم:٤٨] بمعنى: كظم الغيظ، وكظم الغضب ونادى ربه سبحانه: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:٨٧]، قال تعالى: {لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} [القلم:٤٩]، ولكن الله لم يذمه سبحانه وتعالى، إذ قال: {فَاجْتَبَاهُ} [القلم:٥٠]، أي: اصطفاه الله عز وجل، فجعله من الصالحين.
فقال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم:٤٨]، تحذيراً للنبي صلى الله عليه وسلم، ويقول في سورة الحاقة: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:٤٤ - ٤٦]، هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلو أنه افترى علينا وحاشا له صلوات الله وسلامه عليه {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:٤٥ - ٤٦]، فالله سبحانه يقول هذا على نبيه وحبيبه وخليله صلوات الله وسلامه عليه فكيف بغيره؟! لذلك لا يجوز لأحد أن يأمن عذاب الله سبحانه، أو يأمن عقوبة الله سبحانه، أو يحسن الظن بنفسه، أو يسيء الظن بغيره، بل يجب على الإنسان أن يحسن الظن في الله سبحانه وتعالى.
وفي قصة يونس يقول النبي صلى الله عليه وسلم محذراً: (لا يقولن أحدكم إني خير من يونس بن متى)، لا يقولن أحدكم ذلك، لعل إنساناً يسمع هذه القصة فيقول: سيدنا يونس هرب، والنبي صلى الله عليه وسلم صبر، إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم أحسن، فإن هذه المقارنة تكون على وجه النقيصة للنبي يونس عليه الصلاة والسلام، فيحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، ونحن نعلم ونستيقن أن النبي صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم، قال صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) يعني: لا أقول هذا من جهة الافتخار، ولكن أقول بالتحدث بنعمة الله سبحانه وتعالى عليَّ، فكذلك إذا ذكرنا أنه خير الأنبياء لا يكون ذلك على وجه تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم والانتقاص للغير، أما أن يذكر على وجه المقارنة، كأن تقول: يونس عمل كذا، والنبي صلى الله عليه وسلم عمل كذا، إذاً: النبي أحسن من يونس فإن هذا لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، وقال: (لا ينبغي لعبد أن يقول إني خير من يونس بن متى).
وقد أنبت الله عز وجل على يونس عليه الصلاة والسلام شجرة اليقطين، فأحبها النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهي شجرة قرع يجعلها الله عز وجل في هذا الموضع نعمة على هذا العبد، ففيها فضل وفيها خير، فأحب النبي صلى الله عليه وسلم هذا الطعام، وجاءت أحاديث عنه صحيحة في سنن ابن ماجة وفي مسند الإمام أحمد منها: حديث لـ أنس رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب القرع)، وهو الدباء، وفي حديث آخر قال: (بعثت معي أم سليم بمكتل فيه رطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجده، وخرج قريباً إلى مولىًً له دعاه، فصنع له طعاماً، فأتيته وهو يأكل، قال: فدعاني لآكل معه، قال: وصنع ثريدة بلحم وقرع)، فالرجل صنع ثريدة الطعام كأنه الفتيت وفيه اللحم ومعه قرع، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه القرع، قال أنس: (فإذا هو يعجبه القرع، فجعلت أجمعه فأدنيه منه صلى الله عليه وسلم)، وهذا من أدب أنس رضي الله عنه، حيث وجد النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يأكل الدباء، فكان يجمعه قريباً من النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليأكل منه عليه الصلاة والسلام، قال: (فلما طعمنا منه رجع إلى منزله عليه الصلاة والسلام، ووضعت المكتل بين يديه -هدية أرسلتها أم سليم له برطب- فجعل يأكل) يعني: فاكهة أكلها صلى الله عليه وسلم وقسَّم منه حتى فرغ من آخره، يعني: لم يأكل وحده، وإنما أعطى لمن معه من هذه الهدية التي جاءته.
وفي حديث آخر رواه ابن ماجة أيضاً وهو حديث صحيح عن جابر بن طارق بن عوف قال: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم في بيته وعنده هذا الدباء، فقلت: أي شيء هذا؟ قال: هذا القرع -وهو الدباء- نكثر به طعامنا).
فالإنسان المؤمن يحب ما أحبه النبي صلى الله عليه وسلم، وهنا ننبه على شيء، وهو أن بعض أعداء هذا الدين لما عرفوا هذه الأحاديث أخذوا يستهزئون من ذلك، والمسلمون بجهلهم لا يعرفون هذا الشيء، فمنهم من يقول لك: أتحب القرع؟! فيجعل الشيء الذي كان يحبه النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً للتهكم فيتهكمون به، وهو يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الدباء، فلا يحل لمسلم أن يستهين أو يتهكم أو يسخر مما كان يحبه النبي صلى الله عليه وسلم أو يقول شيئاً على وجه التعريض، فيقصد معنى آخر، كأن يقصد السخرية من النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.