للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[قصة ذهاب خديجة بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى ورقة بن نوفل]

قالت السيدة خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم تطمئنه: لا تخف، وهنا الاستدلال بالأسباب على النتيجة، ماذا عملت أنت حتى يبتليك الله في عقلك؟ أنت تعبد ربك سبحانه وتعالى، قالت له كلامها الحكيم الذي يدل على عقلها العظيم رضي الله تبارك وتعالى عنها، تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، هذه صفاته قبل الإسلام صلى الله عليه وسلم: إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، أي: الإنسان الذي انقطع وهو مسافر إلى مكان، ثم وقع الجمل الذي يحمله، ولم يقدر أن يكمل السفر، فقد صار كالاً هذا الإنسان، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يعطيه، ويزوده، ويعينه حتى يستطيع إكمال المسير، أبعد هذا كله يذهب الله عقله بسبب؟ لا يكون هذا أبداً.

وقولها: وتقري الضيف، أي: أنت كريم مع أهلك، وكريم مع ضيوفك، وتعين على نوائب الحق، والحق: هو الله سبحانه وتعالى، وما يعتري الناس من نوائب، فالنبي صلى الله عليه وسلم يعين الخلق على نوائب الحق، فإذا كنت تفعل ذلك، فهل سيبتليك ربك؟! تستدل بفعاله عليه الصلاة والسلام، فلا يمكن أن يخزيك ربك، ولا يخذلك أبداً، وهذا الذي جاءك شيء صحيح وحقيقي.

وذهبت به خديجة إلى ورقة بن نوفل، وهو ابن عم السيدة خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها، فهي خديجة بنت خويلد بن أسد، وهو ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وكان امرأً تنصر في الجاهلية، إذ كان ورقة في الجاهلية يبحث عن الدين الحق، وكذلك زيد بن عمرو بن نفيل، كان الاثنان يبحثان عن الدين الحق، فلم تعجبهم الأصنام، أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان يبغض الأصنام، وتوجه يعبد الله عز وجل ويتحنث لربه في الغار.

وبحث ورقة بن نوفل فوجد أقرب الديانات الموجودة النصرانية، بحث عن الرهبان، وأخذ الإنجيل فكان يكتب من الإنجيل بالعربية، فتنصر في الجاهلية، إذاً: هو عرف النصرانية وعرف الرهبان، ووصل لدرجة من الحكمة العظيمة رضي الله تبارك وتعالى عنه، ورآه النبي صلى الله عليه وسلم يلبس ثياباً بيضاء في رؤيا منامية، فاستدل على أن الله سبحانه وتعالى أكرم ورقة بن نوفل.

وأما زيد بن عمرو بن نفيل فقد بحث فلم تعجبه اليهودية ولا النصرانية، وكان يسجد لله عز وجل ويقول: لو أعلم كيف أعبدك لعبدتك، يبحث عن الدين الحق، ولم تعجبه النصرانية، وكأن ورقة وجد من الرهبان من دله على الحق، أما الآخر فلم يجد، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم عن زيد بن عمرو بن نفيل: (إنه يبعث أمة وحده)، وبارك الله سبحانه وتعالى في ابنه سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل فصار أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله تبارك وتعالى عنه، وأبوه في الجاهلية مات على الحق، ويبعث يوم القيامة أمة وحده.

وهذا ورقة بن نوفل قلنا: إنه استدل على الحق من معرفته بالنصارى قبل الإسلام، فقد رأى أناساً صالحين منهم، ممن كانوا ينتظرون نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فممن كان ينتظره سلمان الفارسي، وقد مشى مع رهبان النصارى، وكل راهب يوصيه: اذهب لفلان واعبد الله معه حتى يظلك زمان فيه نبي سيظهر، حتى جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم.

ورقة بن نوفل قالت له السيدة خديجة: اسمع من ابن أخيك، فقال ورقة: ماذا ترى؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، أي: هذه الرسالة التي نزلت على موسى، جاءك الرسول من عند رب العالمين، يا ليتني فيها جذعاً، هذا الرجل الفاضل الذي عرف الحق، يقول له: يا ليتني حين يبعثك الله عز وجل وتبدأ تنشر هذه الدعوة، ويؤذيك قومه، يا ليتني كنت فيها شاباً قوياً فتياً، كنت سأنصرك، فقد نوى نية حسنة، والله عز وجل يأجره عليها رضي الله عنه، فقال: يا ليتني فيها جذعاً حين يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم؟ فقال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي.

إذاً: دل هذا على أن الرجل كان يعرف الحق، فـ ورقة بن نوفل تنصر على ما كان من الدين الصحيح من النصرانية الذي كان قبل النبي صلى الله عليه وسلم، واطلع وعرف أن هذا رسول رب العالمين صلوات الله وسلامه عليه.

وهكذا نبئ صلى الله عليه وسلم بسورة اقرأ، فلما ذهب إليه قال: يا ليتني حي حين يخرجك قومك، وإلى ذلك الوقت لم تكن قد نزلت عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:١ - ٢] لم تنزل عليه إلا سورة العلق، فقال له ورقة بن نوفل: إن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم ينشب ورقة أن توفي رضي الله تبارك وتعالى عنه.

وفتر الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم فترة، ثم نزل عليه جبريل مرة أخرى.

وكان خلال فترة الوحي كما روى الإمام البخاري ومسلم أنه تحدثه نفسه أنه فتر عنه الوحي، وأن الناس سيقولون عنه: كاذب، فيأتيه جبريل فيثبته، أن اثبت إنك على الحق صلوات الله وسلامه عليه.

إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم أُوحي إليه، وجاءه جبريل من السماء، وكان قبل ذلك يتعبد الله سبحانه، وهذا المقصد من ذكر هذا الحديث، فقد كان يعبد الله سبحانه، ولم يكن يعبد الأصنام، بل كان يبغض الأصنام، ولذلك في قصة بحيرى الراهب لما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه إلى الشام، ولقوا بحيرى الراهب، وإذا به يرى سحابة تظلل النبي صلى الله عليه وسلم، فتعجب الرجل من ذلك، وهذا قبل الإسلام، قبل أن يأتيه الوحي من السماء.

فقال بحيرى: ابن من هذا؟ فقال رجل: ابني، قال: لا، ما ينبغي أن يكون أبوه حياً، فجاء أبو طالب وقال: ابني، قال: لا، ما ينبغي أن يكون أبوه حياً، قال: أنا عمه، وأبوه مات، فقال بحيرى للنبي صلى الله عليه وسلم: إني سائلك عن أشياء، فإذا به يختبره ويقول: باللات والعزى أخبرني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أبغضت شيئاً بغضي لهما، فعرف أنه نبي صلوات الله وسلامه عليه، وأوصى به عمه، وحذره من اليهود، أنهم إذا عرفوا أنه بهذه الصفات فسيقتلونه، وطلب منه أن يرجع به صلوات الله وسلامه عليه.

إذاً: قبل الإسلام لم يكن يعبد اللات ولا العزى ولا الأصنام صلوات الله وسلامه عليه، بل أيضاً كان لو وجد فرصة في أن يكسر الأصنام لَفَعَل صلوات الله وسلامه عليه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>