[تفسير قوله تعالى:(إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم وما نحن بمعذبين)]
قال تعالى:{إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[الشعراء:١٣٥]، أي: إذا قابلتم هذه النعمة بكفركم بربكم سبحانه، فإذا كان قد أعطاكم النعم فإذا بكم تتفرغون للهو وللعبث، فانتظروا عقوبة رب العالمين سبحانه، وهذا الكلام ليس لهم وحدهم، بل هو لكل إنسان يعتبر بذلك، فالقرآن تذكرة، والله يقول:{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى}[الأعلى:٩]، ويقول:{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}[الذاريات:٥٥]، فالمؤمن حين يقرأ مثل هذه القصة بقيس نفسه على هؤلاء، فهؤلاء أنعم الله عز وجل عليهم، وأعطاهم النعم وجعلهم متفرغين، ففي فراغك أنت اعبد رب العالمين سبحانه، ولا تضع وقتك في اللهو والفراغ والعبث، فإن من جرائم قوم عادٍ كما قال تعالى:{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ}[الشعراء:١٢٨ - ١٣٠]، فهذه من جرائم هؤلاء القوم، فاحذر أن يكون فيك مثل جرائم هؤلاء من اللهو، والعبث، وتضييع الوقت، والبعد عن عبادة الله سبحانه، والبطش بالخلق بغير سبب أو بأتفه الأسباب، احذر من ذلك فإن الله يؤاخذ على ذلك، ويفضح صاحبه كما صنع بهؤلاء القوم.
فقوله تعالى:{إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[الشعراء:١٣٥] أي: بسبب ذنوبكم ومعاصيكم، وهذه قراءة الجمهور، وقراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وأبي عمرو:(إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)، أي: إني أخاف عليكم عذاب يوم القيامة، أو عذاب يوم ترون فيه من الله عز وجل الآيات عليكم، فكان جوابهم:{قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ}[الشعراء:١٣٦] لن نستمع لك، فقوله تعالى:{سَوَاءٌ عَلَيْنَا}[الشعراء:١٣٦] يعني: يستوي عندنا أن تنصح أو أن تسكت، {أَوَعَظْتَ}[الشعراء:١٣٦] أي: ذكرتنا {أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ}[الشعراء:١٣٦]، وفي كلا الحالتين لن نستجيب لما تقول، والإنسان قد يغتر بنفسه حين يجد نفسه في صحة في عافية، ويغتر بماله ويستكبر حتى على خالقه سبحانه وتعالى، وينسى أن الذي خلقه من تراب وخلقه من نطفة مذرة، وأخرجه ضعيفاً إلى هذه الحياة وصيره قوياً، سيرده مرة ثانية إلى الضعف وإلى التراب، قال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ}[الروم:٥٤].
فلا تغتر بقوتك فإن بعد القوة ضعفاً، ولا تغتر بغناك فإن بعد الغنى فقراً، ولا تغتر بأن الله مكنك فإنه سيسلب منك ما أعطاك، فقد أبى الله أن يرفع شيئاً إلا وضعه، فهؤلاء القوم ل تنفعهم النصيحة ولم تردعهم الموعظة.
وقالوا:{إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ}[الشعراء:١٣٧] أي: أن هذه الأخلاق التي أنت عليها هي نفس الأكاذيب في الزمان الماضي، فقوله تعالى:{خُلُقُ الأَوَّلِينَ}[الشعراء:١٣٧] أي: أن الناس السابقين من قبلك قالوا كذا وماتوا كلهم، ولم يبعث أحد منهم، {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ}[الشعراء:١٣٧]، فقراءة نافع وابن عامر وعاصم وحمزة وخلف:{إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ}[الشعراء:١٣٧]، وباقي القراء يقرءونها:(إِنْ هَذَا إِلَّا خَلْقُ الأَوَّلِينَ).
ويحتمل في قوله تعالى:{إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ}[الشعراء:١٣٧] أنه من كلام رب العالمين سبحانه فكأنه يعقب على ما قالوه، أي: هذه عادة الأولين، فالأقوام المكذبون من قبل عادتهم أنهم يكذبون الرسل ويقولون مثل هذا الكلام، فتكون كلمة {خُلُقُ الأَوَّلِينَ}[الشعراء:١٣٧] بمعنى: عادة الأولين، ويكون هذا من كلام رب العالمين، أو أنه من كلامهم هم يقولون:{إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ}[الشعراء:١٣٧] أي: أن أخلاقك والكلام الذي أنت تقوله هو مثل حال الذين من قبلك، فلم يُنْتفع بكلامهم، فأنت مثلهم.
فقوله تعالى:{إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ}[الشعراء:١٣٧] الخلق: من الاختلاق وهو الكذب، أي: إن هذا إلا افتراء الأولين، فأنت مثل الكذابين الذين من قبلك، فتأتي كلمة خلق بمعنى: افتراء وكذب، فيكون من كلام هؤلاء، إذ يكذبون رسولهم الكريم عليه الصلاة والسلام ويقولون: أنت كذاب مفتر كما افترى الذين من قبلك.
قال تعالى:{وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}[الشعراء:١٣٨] فقد جزموا بذلك فقالوا: ليس هناك عذاب، وهذا افتراء على الله الكذب، فالكافر يكذب ولا يهتم لكذبه، فيقولون:{وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}[الشعراء:١٣٨] فالكافر بطبيعته يكذب على الله ويكذب على الخلق.