تفسير قوله تعالى: (والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة النور: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:٦٠].
ذكر الله عز وجل آيات الاستئذان وأمر المؤمنين أن يستأذنهم الذين ملكت أيمانهم والذين لم يبلغوا الحلم منهم؛ حفاظاً على العورات، ودعوة إلى التستر في البيوت، فأخبر الله سبحانه وتعالى أن الذين هم في ملك اليمين وإن كانوا يدخلون على أهل البيت إلا أنهم في هذه الثلاثة الأوقات لا بد وأن يستأذنوا.
وكذلك الأطفال الصغار الذين لم يبلغوا الحلم عليهم أن يستأذنون في هذه الأوقات الثلاثة: من قبل صلاة الفجر، وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة، ومن بعد صلاة العشاء؛ لأن هذه ثلاث عورات، فيضع الرجل والمرأة الثياب في هذه الأوقات؛ للنوم والراحة.
وقوله تعالى: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النور:٥٨] أي: في البيوت يطوف بعضكم على بعض، ويخرج هذا من مكان ويدخل في مكان آخر، ولكن هذه الأوقات لا بد من الاستئذان عند الدخول.
ثم ذكر بعد ذلك أن هؤلاء الصغار إذا بلغوا الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم، فقال: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:٥٩]، إذاً: فالكبار يستأذن الرجل منهم على أبيه، وعلى أمه، ويستأذن على أخيه، وعلى أخته؛ لأنه إذا لم يستأذن فقد يفتح باباً ويرى عارياً مثلاً فيتأذى بذلك الرائي والمرئي، فأمر الله عز وجل بالاستئذان، فيعلم الصبي الصغير ويربى على ذلك، فإذا بلغ فلا يفتح باباً مغلقاً حتى يستأذن قبل الدخول.
ثم قال الله عز وجل: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:٥٩]، فكرر المعنى للتأكيد أن الله عز وجل يبين آياته التي أنزلها من عنده سبحانه، ويبين أحكامها التي فيها حكمته العظيمة البالغة، وهي من علمه سبحانه، قال الله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:٥٩].
وذكر الله عز وجل أن المرأة يجب عليها أن تستتر، وأنه لا ينظر إنسان إلى شيء منها، ثم تكلم عن القواعد من النساء، والقواعد: جمع قاعد، والقاعد من النساء: المرأة الكبير العجوز، ولا يقال: قاعدة؛ لعدم وجود المذكر فيها، وأما قولهم: الرجل قائم، والمرأة قائمة فلوجود الوصف في الرجل وفي المرأة، فيحتاج لتاء التأنيث للتفريق بينهما، ولكن القاعد تكون عن الحمل، ولا يوجد رجل قاعد عن الحمل، فكلمة قاعد هنا ليست محتاجة لتاء التأنيث، إذاً فالقاعد من النساء هي المرأة الكبيرة في السن التي لا تشتهى، ولا يرجى من وراءها حمل إذا تزوجت، والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً، قالوا: هن العجز اللواتي قعدن عن التصرف في حوائجهن، وقعدن عن الولد والمحيض؛ بسبب كبر السن.
وهذا قول أكثر أهل العلم، والمقصد أنها عجوز كبيرة لا يشتهى مثلها لزواج.
{فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور:٦٠]، فلم يقل: ((فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن)) فقط، بمعنى وضع جميع الثياب، ولكن قيد ذلك بشرط وهو: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور:٦٠]، أي: لا زال هناك ثياب أخرى عليهن، فالمقصد هو التخفيف من بعض الثياب، فليس عليهن جناح أن يضعن من ثيابهن ويبقى عليهن ثياب؛ حتى لا يكن متبرجات، ولذلك قال: ((غير متبرجات بزينة))، وخص القواعد بذلك لانصراف الأنفس عنهن، فلا حاجة للرجال فيهن، فأبيح لهن ما لا يباح لغيرهن.
إذاً: فالمرأة الشابة البالغة إلى أن تصل إلى سن القواعد قبل ذلك يجب عليها أن تستتر، والراجح أن تستر جميعها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المرأة عورة)، فتضع الخمار فوق رأسها، وتلبس الدرع، وهو القميص الذي تلبسه النساء، ثم تجعل الجلباب ساتراً فوقها، وهو العباءة تلبسها فتتغطى من رأسها إلى رجليها.
وإذا كانت المرأة قاعداً فيجوز أن تترك العباءة التي تضعها النساء فوق الثياب، وتكتفي بالقميص والخمار الذي فوق رأسها وتستر به شعرها، فتلبس الثياب التي تستتر فيها، ولا تحتاج إلى لبس العباءة والجلباب.
قال العلماء: إن الكبيرة في السن كالشابة في التستر، إلا أن الكبيرة تضع الجلباب الذي يكون فوق الدرع والخمار، والمقصود بالدرع: القميص الذي يسمى بالجلابية، والخمار هو الغطاء الذي تستر به رأسها ومنكبها ورقبتها.
قال ابن مسعود وابن جبير: إن القاعد من النساء تضع الجلباب الذي يكون فوق الدرع.
وقوله تعالى: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور:٦٠] أي: غير مظهرات زينة، والتبرج مأخوذ من البروج، والبروج جمع برج، والبرج يطلق على القصر، ويطلق على منازل الكواكب في السماء، والبروج كأنها منازلها والقصور التي تنزل فيها، وسميت البروج لكونها مضيئة ومزينة، ولذلك جعلها الله عز وجل زينة في السماء.
فقوله: غير متبرجات، يعني: أن المرأة لا تبدوا أمام الرجال مظهرة زينتها بحيث تفتنهم بمنظرها، فغير متبرجات أي: غير مظهرات ولا متعرضات بالزينة لينظر إليهن، فإن ذلك من أقبح الأشياء وأبعدها عن الحق.
إذاً كأن التبرج هو التكشف والظهور للعيون، ومنه قوله سبحانه: {بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:٧٨]، والمرأة الكبيرة لا تشتهى، فلا يجوز لها أن تزين نفسها بحيث تبدو أمام الناس في فتنة.
قيل لـ عائشة رضي الله عنها: يا أم المؤمنين! ما تقولين في الخضاب والصباغ والقرط والخلخال وخاتم الذهب؟ فقالت: يا معشر النساء! قصتكن قصة امرأة واحدة، أحل الله لكن الزينة غير متبرجات، تعني: أن المرأة في بيتها تلبس الخلخال والخاتم وتتزين، ولكن الظهور بهذه الزينة أمام الرجال الأجانب ممنوع، فقالت: لا يحل لكن أن يروا منكن محرماً.