[قصة شعيب وقومه في سورة هود]
كذلك في سورة هود يذكر الله عز وجل: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [هود:٨٤]، فيذكر أن شعيباً أخوهم، وهنا في الشعراء ذكر أصحاب الأيكة، وفي سورة الحجر أيضاً ذكر أصحاب الأيكة فلم يقل: أخاهم لا في الحجر ولا في الشعراء، ولكن قال: شعيبٌ عليه الصلاة والسلام.
ثم قال في سورة هود: {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [هود:٨٤]، هذا كلام جديد لم يذكره الله عز وجل في سورة الأعراف، فكأنه تلطف معهم في الكلام في البداية، فقال لهم: ((إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ)) يعني: أنتم في نعم عظيمة، قد أعطاكم الله من الزروع والثمار، وأعطاكم من النعم الكثيرة، فاعبدوا هذا الإله العظيم الذي خلقكم ورزقكم، ((وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ))، ثم قال: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [هود:٨٥ - ٨٦] يعني: ما يبقى لكم من أموال حلال وإن كان قليلاً هذا خير لكم مما تأخذونه من أموال محرمة وإن كان كثيراً، فالمال الذي تأخذونه بالإنقاص في الكيل وفي الميزان وغير ذلك من الحرام.
وهذه النصيحة لهم ولغيرهم، فينبغي للإنسان ألا يطمع، ولينظر إلى هؤلاء الذين طمعوا ولم يرضوا بالحلال -وهو كثير عندهم- وإنما أرادوا الكثرة، وطبيعة الإنسان أن فيه نهماً وفيه شرها، ولو كان لابن آدم واد من ذهب لتمنى أن له ثانياً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب.
فهؤلاء عندهم الخير الكثير من عند الله ومع ذلك يطففون في الكيل والميزان، فقال نبيهم عليه الصلاة والسلام: {بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ} [هود:٨٦] يعني: إذا بعتم واشتريتم فما بقي لكم من ربح حلال يكفيكم، وهذا أخير لكم وأفضل من أن تزيدوا عليه من أموال محرمة، فيمحق الله الجميع بسبب طمعكم.
فكان جوابهم أن قالوا: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ} [هود:٨٧] فكأنهم صاحوا عليه: ما الذي تقوله؟ {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [هود:٨٧] أي: هل صلاتك تأمرك بذلك؟ {أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:٨٧] يعني: أنت تظن أنك حليم رشيد مع أنك لا تفهم شيئاً، وكأنهم يعرضون في الكلام، والحليم هو الإنسان الذي فيه تؤدة صبر وليس عنده اندفاع، فهم قالوا له ذلك على وجه الشتم، فكأنهم يقولون: أنت مندفع وأنت متهور وأنت لست كما تزعم وإنما تمثل علينا بهذا الشيء، {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:٨٧]، والرشيد هو إنسان راشد يجيد التدبير فيما أعطاه الله عز وجل من أموال، فكأنهم يقولون له: هل أنت الذي ستدبر لنا أموالنا وتجمع لنا أموالنا؟ وهم بقولهم: (الرشيد) يقصدون بأنه هو السفيه الذي لا يفهم شيئاً في إدارة الأموال، فكأنهم يشتمونه بذلك.
قوله: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا} [هود:٨٧]، وهذه عادة السفهاء والجهلاء لما يقولون لأهل الدين: هي الصلاة التي تقول لكم: اعملوا كذا، وهو نفس الكلام الذي قاله الكفرة من قبل: (أصلاتك تأمرك)، وهذه فيها قراءتان: (أصلاتك) و (أصلواتك) تأمرك.
قال لهم: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} [هود:٨٨]، إن طريقته وأسلوبه في المخاطبة دليل على حلمه وعلى صبره على هؤلاء، فهؤلاء يستحقون أن يدعو عليهم، ومع ذلك يجادلهم ويناظرهم ويزيد الحجة وراء الحجة، فيقول: (يا قوم) وهذا فيه تحبب وتودد، يعني: أنا منكم ولست غريباً عنكم، فأنتم قومي وأنتم أولى الناس أن أدعوكم، (يا قوم أرأيتم) أي: أخبروني عن الأمر إن كنت على بينة من ربي وآتاني الله عز وجل هذا الدين وجئتكم بهذه البينة، ((وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا)) أي: رزقاً حلالاً، {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:٨٨]، وهم يقولون له: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:٨٧] يعنون: أنك من ورائنا تعمل مثلنا، فيقول لهم: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:٨٨] أي: كيف أصنع شيئاً غير ما آمركم به؟ ما أريد أن أخالف فأفعل هذا الحرام الذي تفعلونه، {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود:٨٨] أي: ما أريد إلا أن أصلح حالكم قدر المستطاع، وأصلح ما أنتم فيه، {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:٨٨].
ثم قال: محذراً لهم: {وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود:٨٩] قوله: (يا قوم لا يجرمنكم) أي: لا يستهوينكم ولا يدفعنكم في الشر شقاقي أو خصومة بيني وبينكم إلى أن تكذبوا فيصيبكم عذاب الله الذي أصاب الأقوام من قبلكم: (قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) فهؤلاء جميعهم قد عرفتم ما نزل بهم من عذاب رب العالمين سبحانه، وقد كانوا سابقين عليكم بمدد، لكن قوم لوط كانوا قريبين منكم ليسوا ببعيد عنكم.
ثم قال لهم: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود:٩٠] فلما قال لهم ذلك إذا بهم يأبون إلا أن يصرخوا ويصيحوا عليه: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود:٩١] أي: لسنا فاهمين منك شيئاً، وإنما أنت تخرف في الكلام، وهذه عادة هؤلاء فلا عقول لهم، ولا يفهمون إلا أن من كان ذا قوة فرأيه هو الرأي السديد، فقالوا لشعيب على نبينا وعليه الصلاة والسلام: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} [هود:٩١]، فانظر إلى سوء الأدب مع الأنبياء فهم يعيرونه بأنه ضعيف، ثم يقولون: {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [هود:٩١] يعني: كان له قوم وعشيرة، فهم لا يقصدون ضعف العشيرة لا، وإنما ضعيف لأنه كان ضريراً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فالكلام هنا ليس فيه مجابهة حجة بحجة، ولا مناظرة وإنما هذه سفاهة وسوء أدب.
{وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود:٩١] يعني: نحن نسكت عنك فقط مراعاة لأهلك، أما لو كنت وحدك لرجمناك بالحجارة وقتلناك، ولست العزيز عندنا الذي نهتم لأمرك ولشأنك.
قال شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} [هود:٩٢] أي: هل من العقلاء من يقول ذلك؟ أرهطي هؤلاء أعز عليكم من الله؟ أفلا تتوبون إلى الله سبحانه؟! أفلا تتفكرون ما الذي تهرفون به من كلام لا تفهمون معناه؟! أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتم الله سبحانه وتعالى وراء ظهوركم.
{إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ} [هود:٩٢ - ٩٣] وهنا جاء التهديد، فهو بعدما تلطف معهم وبعدما نصحهم ووعظهم ورأى أنه لا فائدة فيهم، قال: اعملوا الذي أنتم تريدونه، {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} [هود:٩٣] أي: تتهمونني بالكذب فستعلمون من هو كاذب {وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} [هود:٩٣]، فجاء أمر الله سبحانه وتعالى فأخذهم وأهلكهم.