للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون)]

قال الله تعالى: {الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت:٧]، (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) هنا ذكر صفة المشركين الذين أشركوا بالله سبحانه تبارك وتعالى، وعبدوا غيره، وجعلوا له أنداداً وقرناء يعبدونهم معه سبحانه وتعالى.

(وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) والزكاة: زكاة أبدان، وزكاة نفوس، وزكاة أموال، فكأنه عنى الجميع، وقد ذكر الذين لا يزكون أنفسهم في قوله سبحانه وتعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:١٤ - ١٥] أي: زكى نفسه بالإيمان وطهرها.

وقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:٩] أي: من زكى نفسه بطاعة الله وتوحيده والإيمان به، {وقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:١٠] أي: قد خاب الإنسان الذي نجس ودنس ودس نفسه فأبعدها عن طريق الله، وأشرك بالله سبحانه وتعالى.

وهذه السورة مكية، والزكاة فريضة مدنية، ولم تكن قد فرضت في مكة، وإنما فرضت الزكاة في المدينة مع الصيام سواء قبله أو بعده، بعد العام الثاني من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.

فإذا قال الله في المشركين: {لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:٧] فإن المعنى: أنهم لا يزكون أنفسهم، ولا يتصدقون، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الزكاة إجمالاً في سورة مكية أخرى وهي سورة الأنعام، في قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:١٤١]، إذاً: فقد أمر الله تعالى بحق الزرع في يوم الحصاد في مكة، ثم أمر بأن تحصي الذي عليك يوم الحصاد، ثم أمر أن تعطى الفقراء العشر أو نصف العشر بعد أن تجفف هذه السنابل وتصير صالحة لأن تخزن وتقتات، إذاً قد وجدت في السور المكية إشارات إلى الزكاة من دون تحديد للمقادير، وقد ذكر البعض أن هذا منسوخ، ويرى البعض الآخر أنه ليس بمنسوخ، وإنما هو مجمل بين بعد ذلك وفصل، وهذا هو الصواب، فالصواب: أن الله أشار إلى فرضية الزكاة، وأما الآن فليست مفروضة، وإنما الواجب عليك أن تتصدق بأي شيء، وويل للمشركين الذين لا يتصدقون.

والمعنى الأعم في الزكاة: أنها تزكية للنفس سواء بالإيمان أو بالبذل والعطاء والإنفاق، فأشار إليها، وكأن هذه الصفة - صفة العطاء - من أشق الصفات على الإنسان، أو من أشق ما يكون على قلب الإنسان، ولذلك يقولون: المال شقيق الروح، بل هو من ضروريات حياة الإنسان التي يدافع عنها وهي: دينه وروحه وعقله وماله وعرضه، وهذه الخمسة الأشياء يسمونها: الضروريات الخمس التي جاء الإسلام بحمايتها، وبتحريم كل شيء يؤذيها؛ فلا بد من حماية هذه الضروريات حتى يستطيع الإنسان العيش في هذه الدنيا، والإنسان له عقل يحمي به هذه الأشياء، فقد جاءت الشريعة بحماية هذه الضروريات للإنسان، فحمى روح الإنسان وبدنه بالقصاص، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:١٧٩]، فجعل الله الحدود حماية لذلك، سواء بقتل القاتل إذا كان قتلاً عمداً وعدواناً، أو بقطع عضوه إذا كان قطعه من آخر عمداً وعدواناً، فيفعل به ذلك، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:١٧٩]، وقال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:٤٥]؛ لأن من ضروريات حياة الإنسان: حماية روحه وبدنه وعقله.

وكل ما يعترض الضروريات ويؤذيها فبابه التحريم، فلا تتعرض لبدن إنسان أو حياته إلا بما شرع الله عز وجل، لا تتعرض لعقلك ولا لعقل غيرك بما حرم الله، لأن حماية العقل ضرورة من ضروريات الحياة، ولذلك حرم الله المسكرات وحرم الخمر، وحرم على الإنسان كل ما يذهب عقله.

وحمت الشريعة العرض، فجعلت حد القذف، فكل من قذف إنساناً ولم يأت بالبينة فإنه يجلد الحد الشرعي، ومن وقع في الزنا أقيم عليه الحد، فإن كان ثيباً رجم، وإن كان بكراً جلد.

وحمت الشريعة المال بأن شرعت قطع يد السارق إذا توافرت فيه شروط السرقة المعروفة.

إذاً: فهذه ضروريات لحياة الإنسان حمتها الشريعة بذلك.

إذاً: فالمال من ضمن ضروريات الإنسان حتى يعيش، فهو محتاج إليه، وإنفاقه له قد يكون سخاء، وقد يكون لمصلحة، كأن يأخذ أكثر منه، أو من أجل أن يمدح كما كان يفعل أهل قريش، كما قال أبو جهل: لقد تنافسنا الشرف نحن وبنو عبد مناف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذا؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه! فما صده إلا الحسد للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال الله هنا: ويل لهؤلاء الذين لا يؤتون الزكاة، وليست أي نفقة فإن النفقة التي كان ينفقها هذا المجرم وغيره هي للتفاخر، وقد قال تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:١] أي: التفاخر {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:٢]، وقد كان الفخر عندهم شيئاً كبيراً جداً، وأشعارهم مليئة بالفخر الذي كان بينهم، واستكبار بعضهم على بعض، {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:١] أي: التفاخر حتى ذهبتم إلى المقابر تعدون عظام الموتى، وتفتخرون بهم! {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:٦ - ٧]، وهم لن ينفقوا؛ لأنهم أقسموا فيما بينهم ألا ينفقوا على أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يدفعوا لأحد منهم حاجة، فقال: فويل لهؤلاء الذين لا يؤتون الزكاة.

إذاً: المشرك الكافر يعذب يوم القيامة على عدم دفع الزكاة، وهذه مسألة من مسائل الأصول التي يقول فيها أهل العلم: إن الكافر مخاطب بفروع الشريعة، وإن لم يأت بأصل الأصول وهو التوحيد ولا يقبل منه شيء من العبادات إذا أتى بها بوجود المانع وهو الشرك.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>