للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة)]

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا * يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا * وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا * أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا * وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان:٢١ - ٢٦].

يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات كيف أن المشركين كانوا يتنطعون مع النبي صلى الله عليه وسلم ويطلبون ما يستحيل عليهم أن يجاب لمثله، قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ} [الفرقان:٢١]، فلو شاء الله عز وجل لأنزل ملائكة، ولكن حكمته سبحانه وتعالى تأبى ذلك؛ لأن معناها الإيمان جبراً وقهراً، وإذا رأى الإنسان الملائكة ماذا يملك؟ هل يقدر أن يختار؟ يرى الملائكة أمامه ثم يقول: أؤمن أو لا أؤمن، لا لن يقول ذلك، ولكن إذا رأى الملائكة لا بد أن يؤمن؛ لأنه يخاف ولا طاقة له بهؤلاء الملائكة، فلذلك من حكمة ربنا سبحانه أن يجعل للإنسان اختياراً في باب التكليف، فيكتسب الخير ويكتسب الشر ويحاسب على كسبه، والتوفيق من الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يقدر الأقدار سبحانه وهو الذي يعلم أن هذا في الجنة وهذا في النار، وهو الذي يعطي للإنسان الاختيار ليختار بمشيئته الله في ذلك، قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:٢٩].

هؤلاء الكفار الذين لا يرجون لقاء الله، أي: لا يخافون لقاءنا أو لا يؤملون ذلك، أو لا يبالون به فكله من معاني (لا يرجون)، فهم لا يرجون لقاء الله، يعني: ليس على بالهم هذا الشيء؛ لعدم وجود الإيمان باليوم الآخر في قلوبهم، وهم لا يرجون لقاء الله، بل يقولون: {مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:٢٤]، إذاً: فلا يوجد بعث بعد أن نصير تراباً، فلن نحاسب ولن نجازى وهم لا يؤملون ذلك، فلا يؤمل لقاء الله إلا هذا الذي يرجو جنة الله ويخاف من عذابه، وهؤلاء ليس على بالهم هذا الشيء فـ {لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [الفرقان:٢١]، أي: لا يخافون من لقائنا ولا يبالون بلقائنا ولا يؤملون لقاءنا، فقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [الفرقان:٢١]، هم الكفار.

قال تعالى: {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ} [الفرقان:٢١]، ولولا: للتحضير والحذف، يعني: هلا نزل علينا الملائكة؟ {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا} [الفرقان:٢١]، يعني: من التطاول قولهم: حتى نرى ربنا، وكأنهم يقولون: لن نؤمن إلا بذلك، وهم الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا} [الإسراء:٩٠ - ٩٢]، و (قبيلاً): مقابلة يعني: نرى الملائكة أمامنا بأعيننا، ولن نؤمن لك حتى وإن أتيتنا بهذا كله، ويقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: ولو أتيت بهذا كله فلا نظن أننا نصدقك.

إذاً: فالمعنى: أن الطلب لمجرد المعاندة، فيصير الأمر على ذلك أنهم لن يؤمنوا، فالله أعلم سبحانه وتعالى، وعلمه عظيم وهو الحكيم وهو القوي سبحانه القادر على كل شيء، فإذا آمنوا لن يزداد ملك الله عز وجل بهؤلاء شيئاً، ولو أنهم كفروا وعتوا عتواً كبيراً لم يخسر الله سبحانه وتعالى شيئاً، فهم مع جهلهم وغبائهم يظنون أن تعنتهم على النبي صلى الله عليه وسلم ينفعهم، ولكن ستجري عليهم أقدار الله عز وجل شاءوا أم أبوا، وفي النهاية إلى النار إن ماتوا وهم كفار.

قال ربنا سبحانه: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا} [الفرقان:٢١]، أي: هؤلاء المتكبرون المتجبرون لقد استكبروا في أنفسهم، والإنسان الذي يستكبر في نفسه يحس أنه أعلم من غيره وأفضل من غيره، فيقول الله عز وجل لهؤلاء المستكبرين: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان:٢١]، والعتو: أعظم الظلم وأفحشه، والعتو كذلك: أشد الكفر والفساد في الأرض، والعتو هنا بمعنى: العلو على هيئة الاستكبار، فقد علو وتعاظموا في أنفسهم، واستكبروا على النبي صلى الله عليه وسلم، وأفسدوا في الأرض بكفرهم وعبادتهم غير الله سبحانه وتعالى، وظلموا أنفسهم وغيرهم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>