[تفسير قوله تعالى: (ولما توجه تلقاء مدين)]
قال سبحانه: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} [القصص:٢٢].
أي: ناحية مدين من بلاد الشام عند الأردن، فخرج موسى من مصر متوجهاً إلى بلاد الشام.
فقال حين توجه إلى مدين: {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص:٢٢].
فهو لا يعرف أين الطريق الصحيح، لأن فرعون مسيطر على البلاد كلها، فموسى لا يعرف أن هناك بلاداً أخرى ولا يتحكم فيها فرعون، فلذلك طلب من ربه أن يهديه سبحانه، وقد طمأنه بعد ذلك الرجل الصالح هناك وقال له: {لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:٢٥] وهنا اطمأن موسى لما أعلمه أبو الفتاتين بأنه قد نجا من فرعون، وأن فرعون ليس له سلطان في تلك الأرض، فموسى خارج وهو لا يدري إلى أين يمتد سلطان فرعون.
وفي قوله تعالى: {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي} [القصص:٢٢] قراءتان: قراءة الجمهور {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي} [القصص:٢٢] بالمد وبالقصر.
وقراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وأبي عمرو {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص:٢٢] فلا يوجد فيها مد أصلاً.
والمعنى: عسى ربي أن يدلني ولا يضلني عن الطريق، ويهدني سواء الطريق الصحيحة المستقيمة التي أصل بها إلى النجاة.
خرج موسى عليه السلام من مصر ولم يكن مهيئاً نفسه للسفر، وليس معه زاد ولا مركوب، بل لم يكن معه شيء وكان بمفرده؛ لأنه جاء لهذا المكان وهو خائف يترقب وليس على باله الخروج، فإذا بالرجل يأتي إليه وينصحه بالخروج، فيهرب موسى على قدميه، قالوا: مشى حوالي ثمانمائة وخمسين ميلاً يعني: أكثر من ألف كيلو متر مشاها موسى عليه الصلاة والسلام من مصر حتى وصل إلى مدين.
{قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص:٢٢] فهو لا يعرف الطريق حتى يصل إلى هذا المكان الذي وصل إليه، فلما خرج من مصر متوجهاً بدا متردداً خشية أن يضل أو يته، ولكنه وصل بفضل الله سبحانه وتعالى إلى مدين، ولكن لم يكن معه طعام ولا شراب، قالوا: كان يشرب من المياه التي في طريقه ويأكل من ورق الأشجار.
ولقد ذكر ابن عباس رضي الله عنهما: أنه خرج من مصر حتى وصل إلى مدين وقد حفيت قدماه وسقط نعله عليه الصلاة والسلام، وصار بطنه لاصقاً في ظهره.
يعني: من طول المسافة التي قطعها حتى وصل إلى هذا المكان، إذ لا يعقل أن إنساناً سيخرج من مصر متوجهاً إلى الشام ماشياً، ومع ذلك سيمشي الليل والنهار مثلاً، ولا يأكل فيها شيئاً إذ ليس معه مال ولا طعام.
وفي قصة موسى عليه الصلاة والسلام يرينا الله عز وجل حقارة الدنيا وأنها لا قيمة لها، وأنه مهما ابتلى الله عز وجل الإنسان فيها بأن سلب منه ماله أو أخذ منه صحته، أو ابتلاه بالمصائب، فعليه أن يتصبر اتعاظاً بما حدث لأنبياء الله عليهم الصلاة والسلام.
فهذا النبي عليه السلام يؤذى في مكة، وأحياناً يجوع حتى يربط على بطنه الحجر من شدة الجوع، فالذي ينظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وينظر إلى موسى كيف خرج من مصر إلى أن وصل إلى الشام، {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:٢٤]، وينظر إلى أيوب عليه السلام كيف ابتلاه الله سبحانه وتعالى ومكث في البلاء ثماني عشرة سنة حتى هجره القريب العبيد إلا زوجه وصديقين من أصدقائه عليه الصلاة والسلام، وصديقاه في النهاية قالا عنه: لا بد أنه عمل معصية أخفاها لذلك ابتلاه الله بذلك؛ فالذي ينظر إلى أحوال هؤلاء الأنبياء يتعظ ويعتبر ويكون له بهم أسوة.
والمؤمن حين يبتليه الله عز وجل بشيء لا ينظر إلى الناس؛ لأنه إذا نظر إليهم تعب إذ إنهم لا بد أن يقولوا: هذا قد عمل مصيبة من المصائب حتى ابتلاه الله تعالى بهذا البلاء، كما قالوا عن أيوب عليه الصلاة والسلام حتى دعا ربه فنجاه مما كان فيه، فالنظر إلى الناس يتعب ولكن الإنسان ينظر إلى ربه، ويتذكر نعم الله عز وجل عليه.