في هذه الآيات من سورة النمل يخبر الله سبحانه وتعالى فيها عن هذا القرآن العظيم، كيف أنه يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون، فهم يزعمون أنهم أهل التوراة، وأن عندهم علم عظيم من عند الله سبحانه، فالله يخبرهم أنهم مختلفون في هذا الذي جاءهم من عنده، فقد حرفوه وبدلوه وغيروه وكتموه وأخفوا بعضه، فجاء القرآن ليبين لهم ما هم فيه مختلفون، {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}[النمل:٧٦].
فكان الواجب عليهم -وقد علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم رسول رب العالمين، وأنه نبي حق، وسمعوا ما جاء في القرآن مما هو عندهم، ولا يطلع عليه الكثيرون منهم- أن يتبعوا هذا القرآن، لكنهم اختلفوا فيما عندهم من العلم، فإذا بالله عز وجل يذكر حقيقة الشيء الذي حرفوه، وكيف كذبوا على الله وعلى رسله عليهم الصلاة والسلام.
ومن المعلوم أن بعض اليهود ذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له: نسألك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي، فعندما يجيبهم يقولون له: صدقت -ويقبلون يده ورجله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لا يدخلون في دينه- فيقول: ما يمنعكم أن تتبعوني؟ فيقولون: نخاف من بني إسرائيل -أي: من يهود- أن يقتلوننا، وإن داود دعا ربه أنه لا يزال من ذريته نبي، فنحن ننتظر نبياً من ذريته، فهم في حقيقة أمرهم يخاف بعضهم من بعض، ويخافون أن يقتل بعضهم بعضاً، فطمعوا في الدنيا، وتركوا الآخرة، وأعرضوا عنها، فالله عز وجل فضحهم وأخبرهم في كتابه عما كانوا فيه يختلفون، وأنهم ما اختلفوا إلا من بعد ما جاءتهم البينات، وأن اختلافهم سببه البغي فيما بينهم.
إذاً: جاءهم العلم من رب العالمين، فبغى بعضهم على بعض، وحسد بعضهم بعضاً، وكأن العلم الذي نزل من عند الله عليهم كالمطر، إذا نزل على أرض صالحة أخرج ما فيها من نبات طيب، وإذا نزل على أرض خبيثة لم تنتفع به، وإذا نزل على نبات مر أخرج ثماراً مرة، فهؤلاء جاءهم كتاب رب العالمين وعرفوا ما فيه، ولكن قلوبهم ملئت بالبغي والغل والحسد، فاختلفوا وقتل بعضهم بعضاً بغياً بينهم، فالله أخبر بما كانوا فيه يختلفون، وقال:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}[النمل:٧٦]، وقد أطلع الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على ما كانوا يكيدون له، وما كانوا يقولونه فيه، كما أطلعه على بعض الأشياء التي حرفوها، ففضحهم أمام النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاءوا إليه برجل وامرأة قد زنيا، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم:(ما تجدون عندكم في التوراة؟ -وكانوا يخفون هذا الحكم- قالوا: نجد في كتابنا أن نسخم وجوههما، ونطوف بهما منكسين على حمار، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: أما تجدون الرجم عندكم؟ قالوا: لا -فكذبوا ومعهم التوراة وفيها الرجم- فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:{فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[آل عمران:٩٣]، فأتوا بالتوراة، وإذا بالقارئ يقرؤها ويضع يده على آية الرجم ليخفيها، فقرأ الذي أمامها والذي خلفها، ولم يقرأ ما تحت يده، ثم قال: لا أجدها، فقال له أحد اليهود: ارفع يدك واقرأ ما تحتها، فرفع يده، وما استحيا من الله عز وجل، ومن الناس، فقرأ الآية التي كان يخفيها بيده).
وهكذا كانوا يتعاملون مع توراتهم التي يقولون عنها: إن فيها علماً عظيماً، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يأمر برجم اليهوديين ويقول:(اللهم اشهد أني أول من أقام دينك بعد أن بدلوه)، ففضحهم ربهم على لسان النبي صلى الله عليه وسلم وفي كتابه العزيز بأنهم اختلفوا {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}[البقرة:٢١٣]، فقص عليهم القرآن {أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}[النمل:٧٦].