أَمَامَ الدَّارِ.
قَوْلُهُ: (وَأَنَّهُ أَمَرَ) بِالْفَتْحِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَقِيلَ: رُوِيَ بِالضَّمِّ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ.
قَوْلُهُ: (ثَامِنُونِي) بِالْمُثَلَّثَةِ: اذْكُرُوا لِي ثَمَنُهُ لِأَذْكُرَ لَكُمُ الثَّمَنَ الَّذ ي أَخْتَارَهُ، قَالَ: ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُسَاوَمَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: سَاوِمُونِي فِي الثَّمَنِ.
قَوْلُهُ: (لَا نَطْلُبُ ثَمَنُهُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ) تَقْدِيرُهُ: لَا نَطْلُبُ الثَّمَنَ، لَكِنَّ الْأَمْرَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ، أَوْ إِلَى بِمَعْنَى مِنْ، وَكَذَا عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا مِنَ اللَّهِ وَزَادَ ابْنُ مَاجَهْ: أَبَدًا. وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ لَمْ يَأْخُذُوا مِنْهُ ثَمَنًا. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَهْلَ السِّيَرِ كَمَا سَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: (فَكَانَ فِيهِ) أَيْ فِي الْحَائِطِ الَّذِي بَنَى فِي مَكَانِهِ الْمَسْجِدَ.
قَوْلُهُ: (وَفِيهِ خَرِبٌ) قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: الْمَعْرُوفُ فِيهِ فَتْحُ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرُ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ جَمْعُ خَرِبَةٍ كَكَلِمٍ وَكَلِمَةٍ. قُلْتُ: وَكَذَا ضُبِطَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ أَيْضًا كَسْرَ أَوَّلِهِ وَفَتْحَ ثَانِيهِ جَمْعُ خَرِبَةٍ كَعِنَبٍ وَعِنَبَةٍ، ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ حَرْثٌ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ، وَقَدْ بَيَّنَ أَبُو دَاوُدَ أَنَّ رِوَايَةَ عَبْدِ الْوَارِثِ بِالْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَرِوَايَةَ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمُثَلَّثَةِ، فَعَلَى هَذَا فَرِوَايَةُ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَهْمٌ؛ لِأَنَّ الْبُخَارِيَّ إِنَّمَا أَخْرَجَهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَارِثِ، وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ فِيهِ ضَبْطًا آخَرَ، وَفِيهِ بَحْثٌ سَيَأْتِي مَعَ بَقِيَّةِ مَا فِيهِ فِي كِتَابِ الْهِجْرَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: (فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِلْمُسْتَمْلِي، وَالْحَمَوِيِّ فَاغْفِرِ الْأَنْصَارَ بِحَذْفِ اللَّامِ، وَيُوَجَّهُ بِأَنَّهُ ضَمَّنَ اغْفِرْ مَعْنَى اسْتُرْ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ مُسَدَّدٍ بِلَفْظِ فَانْصُرِ الْأَنْصَارَ.
وَفِي الْحَدِيثِ: جَوَازُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَقْبَرَةِ الْمَمْلُوكَةِ بِالْهِبَةِ وَالْبَيْعِ، وَجَوَازُ نَبْشِ الْقُبُورِ الدَّارِسَةِ إِذَا لَمْ تَكُنْ مُحْتَرَمَةً، وَجَوَازُ الصَّلَاةِ فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ نَبْشِهَا وَإِخْرَاجِ مَا فِيهَا، وَجَوَازُ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي أَمَاكِنِهَا، قِيلَ: وَفِيهِ جَوَازُ قَطْعِ الْأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ لِلْحَاجَةِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ: وَأَمَرَ بِالنَّخْلِ فَقُطِعَ وَفِيهِ نَظَرٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُثْمِرُ إِمَّا بِأَنْ يَكُونَ ذُكُورًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ طَرَأَ عَلَيْهِ مَا قَطَعَ ثَمَرَتَهُ. وَسَيَأْتِي صِفَةُ هَيْئَةِ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ قَرِيبًا.
٤٩ - بَاب الصَّلَاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ
٤٢٩ - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ. ثُمَّ سَمِعْتُهُ بَعْدُ يَقُولُ: كَانَ يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ قَبْلَ أَنْ يُبْنَى الْمَسْجِدُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ) أَيْ أَمَاكِنِهَا، وَهُوَ بِالْمُوَحَّدَةِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ جَمْعُ مِرْبَضٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ.
وحَدِيثُ أَنَسٍ طَرَفٌ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ، لَكِنْ بَيَّنَ هُنَاكَ أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الصَّلَاةَ حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ - أَيْ حَيْثُ دَخَلَ وَقْتُهَا - سَوَاءٌ كَانَ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ أَوْ غَيْرِهَا، وَبَيَّنَ هُنَاكَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُبْنَى الْمَسْجِدُ، ثُمَّ بَعْدَ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ صَارَ لَا يُحِبُّ الصَّلَاةَ فِي غَيْرِهِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ بِنَجَاسَةِ أَبْوَالِ الْغَنَمِ وَأَبْعَارِهَا؛ لِأَنَّ مَرَابِضَ الْغَنَمِ لَا تَسْلَمُ مِنْ ذَلِكَ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ وَعَدَمُ السَّلَامَةِ مِنْهَا غَالِبٌ، وَإِذَا تَعَارَضَ الْأَصْلُ وَالْغَالِبُ قُدِّمَ الْأَصْلُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَزِيدُ بَحْثٍ فِيهِ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ فِي بَابِ أَبْوَالِ الْإِبِلِ.
(تَنْبِيهٌ): الْقَائِلُ: ثَمَّ سَمِعْتُهُ بَعْدُ يَقُولُ: هُوَ شُعْبَةُ يَعْنِي أَنَّهُ سَمِعَ شَيْخَهُ يَزِيدَ فِيهِ الْقَيْدُ الْمَذْكُورُ بَعْدَ أَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ بِدُونِهِ، وَمَفْهُومُ الزِّيَادَةِ أَنَّهُ ﷺ لَمْ يُصَلِّ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ بَعْدَ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ، لَكِنْ قَدْ ثَبَتَ إِذْنُهُ فِي ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ.