هُنَا مَا يُرَادِفُ الصِّحَّةَ وَهُوَ الْإِجْزَاءُ، وَحَقِيقَةُ الْقَبُولِ ثَمَرَةُ وُقُوعِ الطَّاعَةِ مُجْزِئَةً رَافِعَةً لِمَا فِي الذِّمَّةِ. وَلَمَّا كَانَ الْإِتْيَانُ بِشُرُوطِهَا مَظِنَّةَ الْإِجْزَاءِ الَّذِي الْقَبُولُ ثَمَرَتُهُ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْقَبُولِ مَجَازًا، وَأَمَّا الْقَبُولُ الْمَنْفِيُّ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ ﷺ: مَنْ أَتَى عَرَّافًا لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ فَهُوَ الْحَقِيقِيُّ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَصِحُّ الْعَمَلُ وَيَتَخَلَّفُ الْقَبُولُ لِمَانِعٍ، وَلِهَذَا كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَقُولُ: لَأَنْ تُقْبَلَ لِي صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ جَمِيعِ الدُّنْيَا، قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ. قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾
قَوْلُهُ: (أَحْدَثَ) أَيْ: وُجِدَ مِنْهُ الْحَدَثُ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْخَارِجُ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ، وَإِنَّمَا فَسَّرَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ بِأَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ تَنْبِيهًا بِالْأَخَفِّ عَلَى الْأَغْلَظِ ; وَلِأَنَّهُمَا قَدْ يَقَعَانِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِمَا، وَأَمَّا بَاقِي الْأَحْدَاثِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ - كَمَسِّ الذَّكَرِ، وَلَمْسِ الْمَرْأَةِ، وَالْقَيْءِ مِلْءَ الْفَمِ وَالْحِجَامَةِ - فَلَعَلَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ لَا يَرَى النَّقْضَ بِشَيْءٍ مِنْهَا. وَعَلَيْهِ مَشَى الْمُصَنِّفُ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ مَنْ لَمْ يَرَ الْوُضُوءَ إِلَّا مِنَ الْمَخْرَجَيْنِ. وَقِيلَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ اقْتَصَرَ فِي الْجَوَابِ عَلَى مَا ذُكِرَ لِعِلْمِهِ أَنَّ السَّائِلَ كَانَ يَعْلَمُ مَا عَدَا ذَلِكَ، وَفِيهِ بُعْدٌ.
وَاسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِالْحَدَثِ سَوَاءٌ كَانَ خُرُوجُهُ اخْتِيَارِيًّا أَمِ اضْطِرَارِيًّا، وَعَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ لَا يَجِبُ لِكُلِّ صَلَاةٍ لِأَنَّ الْقَبُولَ انْتَفَى إِلَى غَايَةِ الْوُضُوءِ، وَمَا بَعْدَهَا مُخَالِفٌ لِمَا قَبْلَهَا فَاقْتَضَى ذَلِكَ قَبُولَ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْوُضُوءِ مُطْلَقًا.
قَوْلُهُ: (يَتَوَضَّأُ) أَيْ: بِالْمَاءِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ. فَأَطْلَقَ الشَّارِعُ عَلَى التَّيَمُّمِ أَنَّهُ وَضُوءٌ لِكَوْنِهِ قَامَ مَقَامَهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَبُولِ صَلَاةِ مَنْ كَانَ مُحْدِثًا فَتَوَضَّأَ أَيْ: مَعَ بَاقِي شُرُوطِ الصَّلَاةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
٣ - بَاب فَضْلِ الْوُضُوءِ، وَالْغُرُّ الْمُحَجَّلُونَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ
١٣٦ - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ قَالَ: رَقِيتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ، فَتَوَضَّأَ، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ.
قَوْلُهُ: (بَابُ فَضْلِ الْوُضُوءِ، وَالْغُرُّ الْمُحَجَّلُونَ) كَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ بِالرَّفْعِ، وَهُوَ عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ لِمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ: أَنْتُمُ الْغُرُّ الْمُحَجَّلُونَ وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، أَوِ الْوَاوُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ وَالْغُرُّ الْمُحَجَّلُونَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ لَهُمْ فَضْلٌ، أَوِ الْخَبَرُ قَوْلُهُ: مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَالْغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ بِالْعَطْفِ عَلَى الْوُضُوءِ أَيْ: وَفَضْلِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْأَصِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ خَالِدٍ) هُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْإِسْكَنْدَرَانِيُّ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ الثِّقَاتُ، وَرِوَايَتُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ مِنْ بَابِ رِوَايَةِ الْأَقْرَانِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْجِيمِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيُّ، وُصِفَ هُوَ وَأَبُوهُ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِمَا كَانَا يُبَخِّرَانِ مَسْجِدَ النَّبِيِّ ﷺ. وَزَعَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ وَصْفَ عَبْدِ اللَّهِ بِذَلِكَ حَقِيقَةٌ وَوَصْفُ ابْنِهِ نُعَيْمٍ بِذَلِكَ مَجَازٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَقَدْ جَزَمَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ بِأَنَّ نُعَيْمًا كَانَ يُبَاشِرُ ذَلِكَ.
وَرِجَالُ هَذَا الْإِسْنَادِ السِّتَّةُ نِصْفُهُمْ مِصْرِيُّونَ، وَهُمُ اللَّيْثُ وَشَيْخُهُ وَالرَّاوِي عَنْهُ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ مَدَنِيُّونَ.
قَوْلُهُ. (رَقِيتُ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ أَيْ: صَعِدْتُ.
قَوْلُهُ: (فَتَوَضَّأَ) كَذَا لِجُمْهُورِ الرُّوَاةِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ يَوْمًا بَدَلَ قَوْلِهِ فَتَوَضَّأَ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ، وَقَدْ رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْهُ الْبُخَارِيُّ بِلَفْظِ تَوَضَّأَ. وَزَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِيهِ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ فَرَفَعَ فِي عَضُدَيْهِ، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ فَرَفَعَ فِي سَاقَيْهِ وَكَذَا