وَالتَّفَكُّرِ فِي مُهِمَّاتِ الدِّينِ، وَيَئُولُ كَثِيرًا إِلَى قَسْوَةِ الْقَلْبِ وَالْإِيذَاءِ وَالْحِقْدِ وَسُقُوطِ الْمَهَابَةِ وَالْوَقَارِ، وَالَّذِي يَسْلَمُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ الْمُبَاحُ، فَإِنْ صَادَفَ مَصْلَحَةً مِثْلَ تَطَييبِ نَفْسِ الْمُخَاطَبِ، وَمُؤَانَسَتِهِ فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: مِنَ الْغَلَطِ أَنْ يُتَّخَذَ الْمِزَاحُ حِرْفَةً، وَيُتَمَسَّكُ بِأَنَّهُ ﷺ مَزَحَ، فَهُوَ كَمَنْ يَدُورُ مَعَ الرِّيحِ حَيْثُ دَارَ، وَيَنْظُرُ رَقْصَهُمْ، وَيُتَمَسَّكُ بِأَنَّهُ ﷺ أَذِنَ لِعَائِشَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِمْ.
وذكر فيه حَدِيثُ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ النُّغَيْرِ، وسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي بَابِ مَا يَجُوزُ مِنَ الشِّعْرِ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.
وحَدِيثُ عَائِشَةَ كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ، وَمُحَمَّدٌ شَيْخُهُ فِيهِ هُوَ ابْنُ سَلَّامٍ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ لِي صَوَاحِبُ يَلْعَبْنَ مَعِيَ) أَيْ مِنْ أَقْرَانِهَا.
قَوْلُهُ: (يَتَقَمَّعَنَ) بِمُثَنَّاةٍ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْمَفْتُوحَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِنُونٍ سَاكِنَةٍ وَكَسْرِ الْمِيمِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُنَّ يَتَغَيَّبْنَ مِنْهُ، وَيَدْخُلْنَ مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَمْعِ التَّمْرَةِ أَيْ يَدْخُلْنَ فِي السِّتْرِ كَمَا يُدْخِلْنَ التَّمْرَةَ فِي قِمَعِهَا.
قَوْلُهُ: (فَيُسَرِّبُهُنَّ إِلَيَّ) بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ أَيْ يُرْسِلُهُنَّ. وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ صُوَرِ الْبَنَاتِ وَاللَّعِبِ مِنْ أَجْلِ لَعِبِ الْبَنَاتِ بِهِنَّ، وَخُصَّ ذَلِكَ مِنْ عُمُومِ النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الصُّوَرِ، وَبِهِ جَزَمَ عِيَاضٌ وَنَقَلَهُ عَنِ الْجُمْهُورِ، وَأَنَّهُمْ أَجَازُوا بَيْعَ اللَّعِبِ لِلْبَنَاتِ لِتَدْرِيبِهِنَّ مِنْ صِغَرِهِنَّ عَلَى أَمْرِ بُيُوتِهِنَّ وَأَوْلَادِهِنَّ. قَالَ وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَإِلَيْهِ مَالَ ابْنُ بَطَّالٍ، وَحَكَى عَنِ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ لِابْنَتِهِ الصُّوَرَ، وَمِنْ ثَمَّ رَجَّحَ الدَّاوُدِيُّ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَقَدْ تَرْجَمَ ابْنُ حِبَّانَ الْإِبَاحَةَ لِصِغَارِ النِّسَاءِ اللَّعِبَ بِاللِّعَبِ، تَرْجَمَ إِبَاحَةَ الرَّجُلِ لِزَوْجَتِهِ اللَّعِبَ بِالْبَنَاتِ، فَلَمْ يُقَيَّدْ بِالصِّغَرِ وَفِيهِ نَظَرٌ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ تَخْرِيجِهِ: ثَبَتَ النَّهْيُ عَنِ اتِّخَاذِ الصُّوَرِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الرُّخْصَةَ لِعَائِشَةَ فِي ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ: إِنْ كَانَتِ اللُّعَبُ كَالصُّورَةِ فَهُوَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَإِلَّا فَقَدْ يُسَمَّى مَا لَيْسَ بِصُورَةٍ لُعْبَةً، وَبِهَذَا جَزَمَ الْحَلِيمِيُّ فَقَالَ: إِنْ كَانَتْ صُورَةٌ كَالْوَثَنِ لَمْ يَجُزْ وَإِلَّا جَازَ، وَقِيلَ: مَعْنَى الْحَدِيثِ اللَّعِبُ مَعَ الْبَنَاتِ أَيِ الْجَوَارِي، وَالْبَاءُ هُنَا بِمَعْنَى مَعَ حَكَاهُ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ، وَرَدَّهُ. قُلْتُ: وَيَرُدُّهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي الْجَامِعِ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيِّ عَنْهُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَكُنَّ جِوَارِي يَأْتِينَ فَيَلْعَبْنَ بِهَا مَعِيَ وَفِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ، عَنْ هِشَامٍ كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ وَهُنَّ اللُّعَبُ أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ وَغَيْرُهُ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَوْ خَيْبَرَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي هَتْكِهِ السِّتْرَ الَّذِي نَصَبَتْهُ عَلَى بَابِهَا قَالَتْ: فَكَشَفَ نَاحِيَةَ السِّتْرِ عَلَى بَنَاتٍ لِعَائِشَةَ لُعَبٍ فَقَالَ: مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟ قَالَتْ: بَنَاتِي. قَالَتْ: وَرَأَى فِيهَا فَرَسًا مَرْبُوطًا لَهُ جَنَاحَانِ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قُلْتُ: فَرَسٌ. قَالَ: فَرَسٌ لَهُ جَنَاحَانِ؟ قُلْتُ: أَلَمْ تَسْمَعْ أَنَّهُ كَانَ لِسُلَيْمَانَ خَيْلٌ لَهَا أَجْنِحَةٌ؟ فَضَحِكَ فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِاللُّعَبِ غَيْرُ الْآدَمِيَّاتِ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّعِبَ بِالْبَنَاتِ لَيْسَ كَالتَّلَهِّي بِسَائِرِ الصُّوَرِ الَّتِي جَاءَ فِيهَا الْوَعِيدُ: وَإِنَّمَا أَرْخَصَ لِعَائِشَةَ فِيهَا لِأَنَّهَا إِذْ ذَاكَ كَانَتْ غَيْرَ بَالِغٍ. قُلْتُ: وَفِي الْجَزْمِ بِهِ نَظَرٌ، لَكِنَّهُ مُحْتَمَلٌ ; لِأَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ بِنْتَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً إِمَّا أَكْمَلَتْهَا أَوْ جَاوَزَتْهَا أَوْ قَارَبَتْهَا. وَأَمَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَكَانَتْ قَدْ بَلَغَتْ قَطْعًا، فَيَتَرَجَّحُ في رِوَايَةُ مَنْ قَالَ فِي خَيْبَرَ، وَيُجْمَعُ بِمَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ لِأَنَّ ذَلِكَ أَوْلَى مِنَ التَّعَارُضِ.
٨٢ - بَاب الْمُدَارَاةِ مَعَ النَّاسِ
وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: إِنَّا لَنَكْشِرُ فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute