احْتِمَالٍ، وَقِيلَ: يَهْرُبُ نُفُورًا عَنْ سَمَاعِ الْأَذَانِ ثُمَّ يَرْجِعُ مُوَسْوِسًا لِيُفْسِدَ عَلَى الْمُصَلِّي صَلَاتَهُ، فَصَارَ رُجُوعُهُ مِنْ جِنْسِ فِرَارِهِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا الِاسْتِخْفَافُ.
وَقِيلَ: لِأَنَّ الْأَذَانَ دُعَاءٌ إِلَى الصَّلَاةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى السُّجُودِ الَّذِي أَبَاهُ وَعَصَى بِسَبَبِهِ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ يَعُودُ قَبْلَ السُّجُودِ، فَلَوْ كَانَ هَرَبُهُ لِأَجْلِهِ لَمْ يَعُدْ إِلَّا عِنْدَ فَرَاغِهِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ يَهْرُبُ عِنْدَ سَمَاعِ الدُّعَاءِ بِذَلِكَ لِيُغَالِطَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ أَمْرًا ثُمَّ يَرْجِعُ لِيُفْسِدَ عَلَى الْمُصَلِّي سَجْودَهُ الَّذِي أَبَاهُ، وَقِيلَ: إِنَّمَا يَهْرُبُ لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى الْإِعْلَانِ بِشَهَادَةِ الْحَقِّ وَإِقَامَةِ الشَّرِيعَةِ وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى ذَلِكَ حَاصِلٌ قَبْلَ الْأَذَانِ وَبَعْدَهُ مِنْ جَمِيعِ مَنْ يُصَلِّي، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِعْلَانَ أَخَصُّ مِنَ الِاتِّفَاقِ فَإِنَّ الْإِعْلَانَ الْمُخْتَصَّ بِالْأَذَانِ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنَ الْجَهْرِ بِالتَّكْبِيرِ وَالتِّلَاوَةِ مَثَلًا، وَلِهَذَا قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: أَلْقِهِ عَلَى بِلَالٍ فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ أَيْ: أَقْعَدُ فِي الْمَدِّ وَالْإِطَالَةِ وَالْإِسْمَاعِ لِيَعُمَّ الصَّوْتُ وَيَطُولَ أَمَدُ التَّأْذِينِ فَيَكْثُرُ الْجَمْعُ وَيَفُوتُ عَلَى الشَّيْطَانِ مَقْصُودُهُ مِنْ إِلْهَاءِ الْآدَمِيِّ عَنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ أَوْ إِخْرَاجِهَا عَنْ وَقْتِهَا أَوْ وَقْتِ فَضِيلَتِهَا فَيَفِرُّ حِينَئِذٍ، وَقَدْ يَيْأَسُ عَنْ أَنْ يَرُدَّهُمْ عَمَّا أَعْلَنُوا بِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ لِمَا طُبِعَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَذَى وَالْوَسْوَسَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: عَلَى الْأَذَانِ هَيْبَةٌ يَشْتَدُّ انْزِعَاجُ الشَّيْطَانِ بِسَبَبِهَا، لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يَقَعُ فِي الْأَذَانِ رِيَاءٌ وَلَا غَفْلَةٌ عِنْدَ النُّطْقِ بِهِ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ النَّفْسَ تَحْضُرُ فِيهَا فَيَفْتَحُ لَهَا الشَّيْطَانُ أَبْوَابَ الْوَسْوَسَةِ.
وَقَدْ تَرْجَمَ عَلَيْهِ أَبُو عَوَانَةَ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ الْمُؤَذِّنَ فِي أَذَانِهِ وَإِقَامَتِهِ مَنْفِيٌّ عَنْهُ الْوَسْوَسَةُ وَالرِّيَاءُ لِتَبَاعُدِ الشَّيْطَانِ مِنْهُ وَقِيلَ: لِأَنَّ الْأَذَانَ إِعْلَامٌ بِالصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ بِأَلْفَاظٍ هِيَ مِنْ أَفْضَلِ الذِّكْرِ لَا يُزَادُ فِيهَا وَلَا يُنْقَصُ مِنْهَا، بَلْ تَقَعُ عَلَى وَفْقِ الْأَمْرِ، فَيَفِرُّ مِنْ سَمَاعِهَا. وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلِمَا يَقَعُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فِيهَا مِنَ التَّفْرِيطِ فَيَتَمَكَّنُ الْخَبِيثُ مِنَ الْمُفَرِّطِ، فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْمُصَلِّيَ وَفَّى بِجَمِيعِ مَا أُمِرَ بِهِ فِيهَا لَمْ يُقَرَّبِهِ إِذَا كَانَ وَحْدَهُ وَهُوَ نَادِرٌ، وَكَذَا إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَنْدَرَ، أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ نَفَعَ اللَّهُ بِبَرَكَتِهِ.
(فَائِدَةٌ): قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الزَّجْرُ عَنْ خُرُوجِ الْمَرْءِ مِنَ الْمَسْجِدِ بَعْدَ أَنْ يُؤَذِّنَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، لِئَلَّا يَكُونَ مُتَشَبَّهًا بِالشَّيْطَانِ الَّذِي يَفِرُّ عِنْدَ سَمَاعِ الْأَذَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهَانِ): (الْأَوَّلُ) فَهِمَ بَعْضُ السَّلَفِ مِنَ الْأَذَانِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْإِتْيَانُ بِصُورَةِ الْأَذَانِ وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ فِيهِ شَرَائِطُ الْأَذَانِ مِنْ وُقُوعِهِ فِي الْوَقْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا سَمِعْتَ صَوْتًا فَنَادِ بِالصَّلَاةِ وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَرَوَى مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ نَحْوَهُ.
(الثَّانِي) وَرَدَتْ فِي فَضْلِ الْأَذَانِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ بَعْضَهَا فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى، وَاقْتَصَرَ عَلَى هَذَا هُنَا، لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ تَضَمَّنَ فَضْلًا لَا يُنَالُ بِغَيْرِ الْأَذَانِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَخْبَارِ فَإِنَّ الثَّوَابَ الْمَذْكُورَ فِيهَا يُدْرَكُ بِأَنْوَاعٍ أُخْرَى مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
٥ - بَاب رَفْعِ الصَّوْتِ بِالنِّدَاءِ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَذِّنْ أَذَانًا سَمْحًا وَإِلَّا فَاعْتَزِلْنَا
٦٠٩ - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الْأَنْصَارِيِّ ثُمَّ الْمَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ لَهُ: إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ بِالصَّلَاةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute