للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

لَغَوْتَ أَيْ أَمَرْتَ بِالْإِنْصَاتِ مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَهُوَ جُمُودٌ شَدِيدٌ، لِأَنَّ الْإِنْصَاتَ لَمْ يَخْتَلِفْ فِي مَطْلُوبِيَّتِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ مَنْ أَمَرَ بِمَا طَلَبَهُ الشَّرْعُ لَاغِيًا، بَلِ النَّهْيُ عَنِ الْكَلَامِ مَأْخُوذٌ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ بِدَلَالَةِ الْمُوَافَقَةِ، لِأَنَّهُ إِذَا جَعَلَ قَوْلَهُ أَنْصِتْ مَعَ كَوْنِهِ أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ لَغْوًا فَغَيْرُهُ مِنَ الْكَلَامِ أَوْلَى أَنْ يُسَمَّى لَغْوًا.

وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ قَوْلِهِ فَقَدْ لَغَوْتَ: عَلَيْكَ بِنَفْسِكَ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مَنْعِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ حَالَ الْخُطْبَةِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ فِي حَقِّ مَنْ سَمِعَهَا، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَسْمَعُهَا عِنْدَ الْأَكْثَرِ. قَالُوا: وَإِذَا أَرَادَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ فَلْيَجْعَلْهُ بِالْإِشَارَةِ.

وَأَغْرَبَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فَنَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِ الْإِنْصَاتِ عَلَى مَنْ سَمِعَهَا إِلَّا عَنْ قَلِيلٍ مِنَ التَّابِعِينَ وَلَفْظُهُ: لَا خِلَافَ عَلِمْتُهُ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِي وُجُوبِ الْإِنْصَاتِ لِلْخُطْبَةِ عَلَى مَنْ سَمِعَهَا فِي الْجُمُعَةِ. وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ سَمِعَهُ مِنَ الْجُهَّالِ يَتَكَلَّمُ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ: أَنْصِتْ، وَنَحْوَهَا، أَخْذًا بِهَذَا الْحَدِيثِ. وَرُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَنَاسٍ قَلِيلٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا فِي حِينِ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ فِي الْخُطْبَةِ خَاصَّةً، قَالَ: وَفِعْلُهُمْ فِي ذَلِكَ مَرْدُودٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِمْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمُ الْحَدِيثَ. قُلْتُ: لِلشَّافِعِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ وَبَنَاهُمَا بَعْضُ الْأَصْحَابِ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْخُطْبَتَيْنِ بَدَلٌ عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ أَمْ لَا؟ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَحْرُمُ لَا عَلَى الثَّانِي، وَالثَّانِي هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ، فَمِنْ ثَمَّ أَطْلَقَ مَنْ أَطْلَقَ مِنْهُمْ إِبَاحَةَ الْكَلَامِ حَتَّى شَنَّعَ عَلَيْهِمْ مَنْ شَنَّعَ مِنَ الْمُخَالِفِينَ. وَعَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا رِوَايَتَانِ، وَعَنْهُمَا أَيْضًا التَّفْرِقَةُ بَيْنَ مَنْ يَسْمَعُ الْخُطْبَةَ وَمَنْ لَا يَسْمَعُهَا، وَلِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمُعَةُ فَيَجِبُ عَلَيْهِمُ الْإِنْصَاتُ دُونَ مَنْ زَادَ فَجَعَلَهُ شَبِيهًا بِفُرُوضِ الْكِفَايَةِ. وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ إِذَا خَطَبَ بِمَا لَا يَنْبَغِي مِنَ الْقَوْلِ، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ مَا نُقِلَ عَنِ السَّلَفِ مِنَ الْكَلَامِ حَالَ الْخُطْبَةِ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَنْ نَفَى وُجُوبَهُ أَرَادَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْجُمُعَةِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ فِي حَقِّ السَّامِعِ أَنَّ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ الْمُشَارِ إِلَيْهِ آنِفًا وَمَنْ دَنَا فَلَمْ يُنْصِتْ كَانَ عَلَيْهِ كِفْلَانِ مِنَ الْوِزْرِ لِأَنَّ الْوِزْرَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مَنْ فَعَلَ مُبَاحًا. وَلَوْ كَانَ مَكْرُوهًا كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، وَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ أَجَازَ مُطْلَقًا مِنْ قِصَّةِ السَّائِلِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَنَحْوِهِ فَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِالْأَخَصِّ عَلَى الْأَعَمِّ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُخَصَّ عُمُومُ الْأَمْرِ بِالْإِنْصَاتِ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَأَمْرٍ عَارِضٍ فِي مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ، كَمَا خَصَّ بَعْضُهُمْ مِنْهُ رَدَّ السَّلَامِ لِوُجُوبِهِ. وَنَقَلَ صَاحِبُ الْمُغْنِي الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي يَجُوزُ فِي الصَّلَاةِ يَجُوزُ فِي الْخُطْبَةِ كَتَحْذِيرِ الضَّرِيرِ مِنَ الْبِئْرِ، وَعِبَارَةُ الشَّافِعِيِّ: وَإِذَا خَافَ عَلَى أَحَدٍ لَمْ أَرَ بَأْسًا إِذَا لَمْ يُفْهَمْ عَنْهُ بِالْإِيمَاءِ أَنْ يَتَكَلَّمَ. وَقَدِ اسْتَثْنَى مِنَ الْإِنْصَاتِ فِي الْخُطْبَةِ مَا إِذَا انْتَهَى الْخَطِيبُ إِلَى كُلِّ مَا لَمْ يُشْرَعْ مِثْلِ الدُّعَاءِ لِلسُّلْطَانِ مَثَلًا، بَلْ جَزَمَ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ بِأَنَّ الدُّعَاءَ لِلسُّلْطَانِ مَكْرُوهٌ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَحَلُّهُ مَا إِذَا جَازَفَ وَإِلَّا فَالدُّعَاءُ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ مَطْلُوبٌ اهـ. وَمَحَلُّ التَّرْكِ إِذَا لَمْ يَخَفِ الضَّرَرَ، وَإِلَّا فَيُبَاحُ لِلْخَطِيبِ إِذَا خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ

٣٧ - بَاب السَّاعَةِ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ

٩٣٥ - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ذَكَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا.

[الحديث ٩٣٥ - طرفاه في: ٦٤٠٠. ٥٢٩٤]