مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا﴾ وَقَدْ بَيَّنَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ وَفِيهَا لَمَّا نَزَلَتْ حَكَمَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِمِثْلِ ذَلِكَ إِذَا جَاءَتْهُمُ امْرَأَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَرُدَّ الصَّدَاقُ إِلَى زَوْجِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾ فَأَتَاهُ الْمُؤْمِنُونَ فَأَقَرُّوا بِحُكْمِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَأَبَوْا أَنْ يُقِرُّوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ﴾
قَوْلُهُ: (وَالْعَقِبُ إِلَخْ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْقَافِ.
قَوْلُهُ: (وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ ارْتَدَّتْ بَعْدَ إِيمَانِهَا) هُوَ كَلَامُ الزُّهْرِيِّ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ الْإِشَارَةَ إِلَى أَنَّ الْمعَاقبَةَ الْمَذْكُورَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَانِبَيْنِ إِنَّمَا وَقَعَتْ فِي الْجَانِبِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ أَحَدًا مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ فَرَّتْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ بِخِلَافِ عَكْسِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ أَنَّ أُمَّ الْحَكَمِ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ ارْتَدَّتْ وَفَرَّتْ مِنْ زَوْجِهَا عِيَاضِ بْنِ شَدَّادٍ فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ وَلَمْ يَرْتَدَّ مِنْ قُرَيْشٍ غَيْرُهَا، وَلَكِنَّهَا أَسْلَمَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مَعَ ثَقِيفٍ حِينَ أَسْلَمُوا، فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ بِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ هَاجَرَتْ فِيمَا قَبْلَ ذَلِكَ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ أَشْيَاءُ تَتَعَلَّقُ بِالْمَنَاسِكِ: مِنْهَا أَنَّ ذَا الْحُلَيْفَةِ مِيقَاتُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لِلْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ، وَأَنَّ تَقْلِيدَ الْهَدْيِ وَسَوْقَهِ سُنَّةٌ لِلْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ فَرْضًا كَانَ أَوْ سُنَّةً، وَأَنَّ الْإِشْعَارَ سُنَّةٌ لَا مُثْلَةٌ، وَأَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ مِنَ التَّقْصِيرِ، وَأَنَّهُ نُسُكٌ فِي حَقِّ الْمُعْتَمِرِ مَحْصُورًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَحْصُورٍ، وَأَنَّ الْمُحْصَرَ يَنْحَرُ هَدْيَهُ حَيْثُ أُحْصِرَ وَلَوْ لَمْ يَصِلْ إِلَى الْحَرَمِ، وَيُقَاتِلُ مَنْ صَدَّهُ عَنِ الْبَيْتِ، وَأَنَّ الْأَوْلَى فِي حَقِّهِ تَرْكُ الْمُقَاتَلَةِ إِذَا وَجَدَ إِلَى الْمُسَالَمَةِ طَرِيقًا، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ بَسْطُ أَكْثَرِهِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ. وَفِيهِ أَشْيَاءُ تَتَعَلَّقُ بِالْجِهَادِ: مِنْهَا جَوَازُ سَبْيِ ذَرَارِيِّ الْكُفَّارِ إِذَا انْفَرَدُوا عَنِ الْمُقَاتِلَةِ وَلَوْ كَانَ قَبْلَ الْقِتَالِ.
وَفِيهِ الِاسْتِتَارُ عَنْ طَلَائِعِ الْمُشْرِكِينَ، وَمُفَاجَأَتُهُمْ بِالْجَيْشِ لِطَلَبِ غِرَّتِهِمْ، وَجَوَازُ التَّنَكُّبِ عَنِ الطَّرِيقِ السَّهْلِ إِلَى الطَّرِيقِ الْوَعْرِ لِدَفْعِ الْمَفْسَدَةِ وَتَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ، وَاسْتِحْبَابِ تَقْدِيمِ الطَّلَائِعِ وَالْعُيُونِ بَيْنَ يَدَيِ الْجَيْشِ، وَالْأَخْذُ بِالْحَزْمِ فِي أَمْرِ الْعَدُوِّ لِئَلَّا يَنَالُوا غِرَّةَ الْمُسْلِمِينَ، وَجَوَازُ الْخِدَاعِ فِي الْحَرْبِ، وَالتَّعْرِيضِ بِذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ وَإِنْ كَانَ مِنْ خَصَائِصِهِ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ خَائِنَةِ الْأَعْيُنِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا فَضْلُ الِاسْتِشَارَةِ لِاسْتِخْرَاجِ وَجْهِ الرَّأْيِ وَاسْتِطَابَةِ قُلُوبِ الْأَتْبَاعِ، وَجَوَازُ بَعْضِ الْمُسَامَحَةِ فِي أَمْرِ الدِّينِ، وَاحْتِمَالِ الضَّيْمِ فِيهِ مَا لَمْ يَكُنْ قَادِحًا فِي أَصْلِهِ إِذَا تَعَيَّنَ ذَلِكَ طَرِيقًا لِلسَّلَامَةِ فِي الْحَالِ وَالصَّلَاحِ فِي الْمَآلِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي حَالِ ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ قُوَّتِهِمْ، وَأَنَّ التَّابِعَ لَا يَلِيقُ بِهِ الِاعْتِرَاضُ عَلَى الْمَتْبُوعِ بِمُجَرَّدِ مَا يَظْهَرُ فِي الْحَالِ بَلْ عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ، لِأَنَّ الْمَتْبُوعَ أَعْرَفُ بِمَآلِ الْأُمُورِ غَالِبًا بِكَثْرَةِ التَّجْرِبَةِ وَلَا سِيَّمَا مَعَ مَنْ هُوَ مُؤَيَّدٌ بِالْوَحْيِ.
وَفِيهِ جَوَازُ الِاعْتِمَادِ عَلَى خَبَرِ الْكَافِرِ إِذَا قَامَتِ الْقَرِينَةُ عَلَى صِدْقِهِ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ مُسْتَدِلًّا بِأَنَّ الْخُزَاعِيَّ الَّذِي بَعَثَهُ النَّبِيُّ ﷺ عَيْنًا لَهُ لِيَأْتِيَهُ بِخَبَرِ قُرَيْشٍ كَانَ حِينَئِذٍ كَافِرًا، وَإِنَّمَا اخْتَارَهُ لِذَلِكَ مَعَ كُفْرِهِ لِيَكُونَ أَمْكَنَ لَهُ فِي الدُّخُولِ فِيهِمْ وَالِاخْتِلَاطِ بِهِمْ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى أَسْرَارِهِمْ، قَالَ: وَيُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ جَوَازُ قَبُولِ قَوْلِ الطَّبِيبِ الْكَافِرِ. قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْخُزَاعِيُّ الْمَذْكُورُ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ وَلَمْ يَشْتَهِرْ إِسْلَامُهُ حِينَئِذٍ، فَلَيْسَ مَا قَالَهُ دَلِيلًا عَلَى مَا ادَّعَاهُ، وَاللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
١٦ - بَاب الشُّرُوطِ فِي الْقَرْضِ
٢٧٣٤ - وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute