مِنَ التَّابِعِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَيَّدَ ذَلِكَ بِشِدَّةِ الْخَوْفِ، وَسَيَأْتِي عَنْ بَعْضِهِمْ فِي شِدَّةِ الْخَوْفِ أَسْهَلُ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: قَصْرُ الْخَوْفِ قَصْرُ هَيْئَةٍ لَا قَصْرُ عَدَدٍ، وَتَأَوَّلُوا رِوَايَةَ مُجَاهِدٍ هَذِهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ رَكْعَةٌ مَعَ الْإِمَامِ، وَلَيْسَ فِيهِ نَفْيُ الثَّانِيَةِ، وَقَالُوا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ لَمْ يَقْضُوا أَيْ لَمْ يُعِيدُوا الصَّلَاةَ بَعْدَ الْأَمْنِ (١) وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَائِدَةٌ): لَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ تَعَرُّضٌ لِكَيْفِيَّةِ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهَا قَصْرٌ، وَاخْتَلَفُوا هَلِ الْأَوْلَى أَنْ يُصَلِّيَ بِالْأُولَى ثِنْتَيْنِ وَالثَّانِيَةِ وَاحِدَةً أَوِ الْعَكْسُ.
٤ - بَاب الصَّلَاةِ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ الْحُصُونِ وَلِقَاءِ الْعَدُوِّ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ كَانَ تَهَيَّأَ الْفَتْحُ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلَاةِ صَلَّوْا إِيمَاءً كُلُّ امْرِئٍ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْإِيمَاءِ أَخَّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى يَنْكَشِفَ الْقِتَالُ، أَوْ يَأْمَنُوا فَيُصَلُّوا رَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا صَلَّوْا رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ لَا يُجْزِئُهُمْ التَّكْبِيرُ، وَيُؤَخِّرُوهَا حَتَّى يَأْمَنُوا. وَبِهِ قَالَ مَكْحُولٌ. وَقَالَ أَنَسُ: حَضَرْتُ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ حِصْنِ تُسْتَرَ عِنْدَ إِضَاءَةِ الْفَجْرِ، وَاشْتَدَّ اشْتِعَالُ الْقِتَالِ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلَاةِ، فَلَمْ نُصَلِّ إِلَّا بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ فَصَلَّيْنَاهَا وَنَحْنُ مَعَ أَبِي مُوسَى. فَفُتِحَ لَنَا. وَقَالَ أَنَسُ: وَمَا يَسُرُّنِي بِتِلْكَ الصَّلَاةِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا.
٩٤٥ - حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُبَارَكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: جَاءَ عُمَرُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ وَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا صَلَّيْتُ الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتْ الشَّمْسُ أَنْ تَغِيبَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: وَأَنَا وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا بَعْدُ، قَالَ: فَنَزَلَ إِلَى بُطْحَانَ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَابَتْ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ بَعْدَهَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ الصَّلَاةِ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ الْحُصُونِ) أَيْ عِنْدَ إِمْكَانِ فَتْحِهَا، وَغَلَبَةِ الظَّنِّ عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَلِقَاءُ الْعَدُوِّ) وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: كَأَنَّ الْمُصَنِّفَ خَصَّ هَذِهِ الصُّورَةَ لِاجْتِمَاعِ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، فَإِنَّ الْخَوْفَ يَقْتَضِي مَشْرُوعِيَّةَ صَلَاةِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ بِحُصُولِ الظَّفَرِ يَقْتَضِي اغْتِفَارَ التَّأْخِيرِ لِأَجْلِ اسْتِكْمَالِ مَصْلَحَةِ الْفَتْحِ، فَلِهَذَا خَالَفَ الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْحُكْمَ فِي غَيْرِهَا عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ إِلَخْ) كَذَا ذَكَرَهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْهُ فِي كِتَابِ السِّيَرِ.
قَوْلُهُ: (إِنْ كَانَ تَهَيَّأَ الْفَتْحُ) أَيْ تَمَكَّنَ، وَفِي رِوَايَةِ الْقَابِسِيِّ إِنْ كَانَ بِهَا الْفَتْحُ بِمُوَحَّدَةٍ وَهَاءِ الضَّمِيرِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ.
قَوْلُهُ: (فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْإِيمَاءِ) قِيلَ: فِيهِ إِشْكَالٌ لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنِ الْإِيمَاءِ لَا يَتَعَذَّرُ مَعَ حُصُولِ الْعَقْلِ، إِلَّا أَنْ تَقَعَ دَهْشَةٌ فَيَعْزُبُ اسْتِحْضَارُهُ ذَلِكَ، وَتُعُقِّبَ. قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: مَنْ بَاشَرَ الْحَرْبَ وَاشْتِغَالَ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ إِذَا اشْتَغَلَتْ عَرَفَ كَيْفَ يَتَعَذَّرُ الْإِيمَاءُ، وَأَشَارَ ابْنُ بَطَّالٍ إِلَى أَنَّ عَدَمَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ يُتَصَوَّرُ بِالْعَجْزِ عَنِ الْوُضُوءِ أَوِ التَّيَمُّمِ لِلِاشْتِغَالِ بِالْقِتَالِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْأَوْزَاعِيَّ كَانَ يَرَى اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ شَرْطًا فِي الْإِيمَاءِ فَيُتَصَوَّرُ الْعَجْزُ عَنِ الْإِيمَاءِ إِلَيْهَا حِينَئِذٍ.
قَوْلُهُ: (فَلَا يُجْزِيهِمُ التَّكْبِيرُ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى
(١) هذا الجواب من الجمهور فيه نظر. والصواب قول من قال: يجوز الإقتصار على ركعة واحدة في الخوف لصحة الأحاديث بذلك. والله أعلم.