ذَلِكَ عَلَى أَحَدِ الْآرَاءِ فِي حَدِّ الْمُفَصَّلِ كَمَا تَقَدَّمَ وَكَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ أَيْضًا فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ كَرَاهَةُ الْإِفْرَاطِ فِي سُرْعَةِ التِّلَاوَةِ لِأَنَّهُ يُنَافِي الْمَطْلُوبَ مِنَ التَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ السَّرْدِ بِدُونِ تَدَبُّرٍ لَكِنَّ الْقِرَاءَةَ بِالتَّدَبُّرِ أَعْظَمُ أَجْرًا، وَفِيهِ جَوَازُ تَطْوِيلِ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَوَّلُ حَدِيثٍ مَوْصُولٍ أَوْرَدَهُ فِي هَذَا الْبَابِ، فَلِهَذَا صَدَّرَ التَّرْجَمَةَ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ، وَفِيهِ مَا تَرْجَمَ لَهُ وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ السُّوَرِ لِأَنَّهُ إِذَا جُمِعَ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ سَاغَ الْجَمْعُ بَيْنَ ثَلَاثٍ فَصَاعِدًا لِعَدَمِ الْفَرْقِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَجْمَعُ بَيْنَ السُّوَرِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ مِنَ الْمُفَصَّلِ، وَلَا يُخَالِفُ هَذَا مَا سَيَأْتِي فِي التَّهَجُّدِ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الطِّوَالِ، لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى النَّادِرِ.
وَقَالَ عِيَاضٌ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ كَانَ قَدْرَ قِرَاءَتِهِ غَالِبًا، وَأَمَّا تَطْوِيلُهُ فَإِنَّمَا كَانَ فِي التَّدَبُّرِ وَالتَّرْتِيلِ، وَمَا وَرَدَ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ قِرَاءَةِ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهَا فِي رَكْعَةٍ فَكَانَ نَادِرًا. قُلْتُ: لَكِنْ لَيْسَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ، بَلْ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرُنُ بَيْنَ هَذِهِ السُّوَرِ الْمُعَيَّنَاتِ إِذَا قَرَأَ مِنَ الْمُفَصَّلِ، وَفِيهِ مُوَافَقَةٌ لِقَوْلِ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ صَلَاتَهُ بِاللَّيْلِ كَانَتْ عَشْرَ رَكَعَاتٍ غَيْرَ الْوِتْرِ، وَفِيهِ مَا يُقَوِّي قَوْلَ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْمُتَقَدِّمَ: إِنَّ تَأْلِيفَ السُّوَرِ كَانَ عَنِ اجْتِهَادٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، لِأَنَّ تَأْلِيفَ عَبْدِ اللَّهِ الْمَذْكُورَ مُغَايِرٌ لِتَأْلِيفِ مُصْحَفِ عُثْمَانَ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
١٠٧ - بَاب يَقْرَأُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ
٧٧٦ - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ فِي الْأُولَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ، وَيُسْمِعُنَا الْآيَةَ وَيُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مَا لَا يُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَهَكَذَا فِي الْعَصْرِ، وَهَكَذَا فِي الصُّبْحِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ يَقْرَأُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ) يَعْنِي بِغَيْرِ زِيَادَةٍ، وَسَكَتَ عَنْ ثَالِثَةِ الْمَغْرِبِ رِعَايَةً لِلَفْظِ الْحَدِيثِ مَعَ أَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الْأُخْرَيَيْنِ مِنَ الرُّبَاعِيَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَذْكُرْهَا لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ مِنْ طَرِيقِ الصُّنَابِحِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ يَقْرَأُ فِيهَا: ﴿رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا﴾ الْآيَةَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ يَحْيَى) هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ.
قَوْلُهُ: (بِأُمِّ الْكِتَابِ) فِيهِ مَا تَرْجَمَ لَهُ، وَفِيهِ التَّنْصِيصُ عَلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ. قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: قَدْ كُنْتُ زَمَانًا أَحْسَبُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَمْ يَرْوِهِ عَنْ يَحْيَى غَيْرُ هَمَّامٍ وَتَابَعَهُ أَبَانُ، إِلَى أَنْ رَأَيْتُ الْأَوْزَاعِيَّ قَدْ رَوَاهُ أَيْضًا عَنْ يَحْيَى يَعْنِي أَنَّ أَصْحَابَ يَحْيَى اقْتَصَرُوا عَلَى قَوْلِهِ: كَانَ يَقْرَأُ فِي الْأَوَّلِيَّيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ، وَأَنَّ هَمَّامًا زَادَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ وَهِيَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْفَاتِحَةِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، فَكَانَ يَخْشَى شُذُوذَهَا إِلَى أَنْ قَوِيَتْ عِنْدَهُ بِمُتَابَعَةِ مَنْ ذُكِرَ، لَكِنَّ أَصْحَابَ الْأَوْزَاعِيِّ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى ذِكْرِهَا كَمَا سَيَظْهَرُ ذَلِكَ بَعْدَ بَابٍ.
قَوْلُهُ: (مَا لَا يُطِيلُ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَلِكَرِيمَةَ: مَا لَا يَطُولُ. وَمَا نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَالْحَموِيِّ: بِمَا لَا يُطِيلُ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَطْوِيلِ الرَّكْعَةِ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي: بَابِ الْقِرَاءَةِ فِي الظَّهْرِ وَسَيَأْتِي أَيْضًا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute