نَدَبَ إِلَى فِعْلِ الْمَعْرُوفِ، أَيْ: مِنْ سِوَى مَا تَقَدَّمَ كَإِمَاطَةِ الْأَذَى، وَعِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ نَدَبَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَإِنْ لَمْ يُطِقْ فَتَرْكُ الشَّرِّ، وَذَلِكَ آخِرُ الْمَرَاتِبِ. قَالَ: وَمَعْنَى الشَّرِّ هُنَا مَا مَنَعَهُ الشَّرْعُ، فَفِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلْعَاجِزِ عَنْ فِعْلِ الْمَنْدُوبَاتِ إِذَا كَانَ عَجْزُهُ عَنْ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ. قُلْتُ: وَأَشَارَ بِالصَّلَاةِ إِلَى مَا وَقَعَ فِي آخِرِ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ عِنْدَ مُسْلِمٍ: وَيُجْزِئُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ رَكْعَتَا الضُّحَى. وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ لَا يُكَمِّلُ مِنْهَا مَا يَخْتَلُّ مِنَ الْفَرْضِ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا تُكَمِّلُ الصَّلَاةَ وَلَا الْعَكْسُ. فَدَلَّ عَلَى افْتِرَاقِ الصَّدَقَتَيْنِ.
وَاسْتُشْكِلَ الْحَدِيثُ مَعَ تَقَدُّمِ ذِكْرِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، فَكَيْفَ تُجْزِئُ عَنْهُ صَلَاةُ الضُّحَى وَهِيَ مِنَ التَّطَوُّعَاتِ؟ وَأُجِيبَ بِحَمْلِ الْأَمْرِ هُنَا عَلَى مَا إِذَا حَصَلَ مِنْ غَيْرِهِ، فَسَقَطَ بِهِ الْفَرْضُ، وَكَأَنَّ فِي كَلَامِهِ هُوَ زِيَادَةٌ فِي تَأْكِيدِ ذَلِكَ فَلَوْ تَرَكَهُ أَجْزَأَتْ عَنْهُ صَلَاةُ الضُّحَى، كَذَا قِيلَ وَفِيهِ نَظَرٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ صَلَاةَ الضُّحَى تَقُومُ مَقَامَ الثَّلَاثِمَائَةِ وَسِتِّينَ حَسَنَةً الَّتِي يُسْتَحَبُّ لِلْمَرْءِ أَنْ يَسْعَى فِي تَحْصِيلِهَا كُلَّ يَوْمٍ لِيُعْتِقَ مَفَاصِلَهُ الَّتِي هِيَ بِعَدَدِهَا، لَا أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ صَلَاةَ الضُّحَى تُغْنِي عَنِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَمَلٌ بِجَمِيعِ الْجَسَدِ، فَتَتَحَرَّكُ الْمَفَاصِلُ كُلُّهَا فِيهَا بِالْعِبَادَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِكَوْنِ الرَّكْعَتَيْنِ تَشْتَمِلَانِ عَلَى ثَلَاثِمَائِةٍ وَسِتِّينَ مَا بَيْنَ قَوْلٍ وَفِعْلٍ إِذَا جَعَلْتَ كُلَّ حَرْفٍ مِنَ الْقِرَاءَةِ مَثَلًا صَدَقَةً، وَكَأَنَّ صَلَاةَ الضُّحَى خُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهَا أَوَّلَ تَطَوُّعَاتِ النَّهَارِ بَعْدَ الْفَرْضِ وَرَاتِبَتِهِ، وَقَدْ أَشَارَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ إِلَى أَنَّ صَدَقَةَ السُّلَامَى نَهَارِيَّةٌ لِقَوْلِهِ: يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: كُلُّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: فَيُمْسِي وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسَهُ عَنِ النَّارِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَحْكَامَ تَجْرِي عَلَى الْغَالِبِ، لِأَنَّ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ الْمَأْمُورَ بِصَرْفِهَا، وَقَدْ قَالَ: عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ.
وَفِيهِ مُرَاجَعَةُ الْعَالِمِ فِي تَفْسِيرِ الْمُجْمَلِ وَتَخْصِيصِ الْعَامِّ، وَفِيهِ فَضْلُ التَّكَسُّبِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِعَانَةِ، وَتَقْدِيمُ النَّفْسِ عَلَى الْغَيْرِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّفْسِ ذَاتُ الشَّخْصِ وَمَا يَلْزَمُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
٣١ - بَاب قَدْرُ كَمْ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ، وَمَنْ أَعْطَى شَاةً
١٤٤٦ - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ ﵂ قَالَتْ: بُعِثَ إِلَى نُسَيْبَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ بِشَاةٍ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى عَائِشَةَ ﵂ مِنْهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ فَقُلْتُ: لَا، إِلَّا مَا أَرْسَلَتْ بِهِ نُسَيْبَةُ مِنْ تِلْكَ الشَّاةِ. فَقَالَ: هَاتِ، فَقَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَدْرُ كَمْ يُعْطِي مِنَ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ، وَمَنْ أَعْطَى شَاةً) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أُمِّ عَطِيَّةَ فِي إِهْدَائِهَا الشَّاةَ الَّتِي تُصُدِّقَ بِهَا عَلَيْهَا، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: عَطْفُ الصَّدَقَةَ عَلَى الزَّكَاةِ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، إِذْ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الزَّكَاةِ لَأَفْهَمَ أَنَّ غَيْرَهَا بِخِلَافِهَا، وَحَذَفَ مَفْعُولَ يُعْطِي اخْتِصَارًا لِكَوْنِهِمْ ثَمَانِيَةَ أَصْنَافٍ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ كَرِهَ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ قَدْرَ النِّصَابِ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَا بَأْسَ بِهِ. انْتَهَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَفْظُ الصَّدَقَةِ يَعُمُّ الْفَرْضَ وَالنَّفْلَ، وَالزَّكَاةُ كَذَلِكَ لَكِنَّهَا لَا تُطْلَقُ غَالِبًا إِلَّا عَلَى الْمَفْرُوضِ دُونَ التَّطَوُّعِ فَهِيَ أَخَصُّ مِنَ الصَّدَقَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَفْظُ الصَّدَقَةِ مِنْ حَيْثُ الْإِطْلَاقِ عَلَى الْفَرْضِ مُرَادِفُ الزَّكَاةِ لَا مِنْ حَيْثُ الْإِطْلَاقِ عَلَى النَّفْلِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْأَحَادِيثِ لَفْظُ الصَّدَقَةِ عَلَى الْمَفْرُوضَةِ، وَلَكِنَّ الْأَغْلَبَ التَّفْرِقَةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute