النَّوَوِيُّ: مَعْنَى الْكَلَامِ: حَدَّثَنِي الْبَرَاءُ وَهُوَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ كَمَا عَلِمْتُمْ، فَثِقُوا بِمَا أُخْبِرُكُمْ بِهِ عَنْهُ، وَقَدِ اعْتَرَضَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى التَّنْظِيرِ الْمَذْكُورِ فَقَالَ: كَأَنَّهُ لَمْ يُلِمَّ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِ الْبَيَانِ، لِلْفَرْقِ الْوَاضِحِ بَيْنَ قَوْلِنَا: فُلَانٌ صَدُوقٌ، وَفُلَانٌ غَيْرُ كَذُوبٍ؛ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ إِثْبَاتُ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ، وَفِي الثَّانِي نَفْيُ ضِدِّهَا عَنْهُ، فَهُمَا مُفْتَرِقَانِ. قَالَ: وَالسِّرُّ فِيهِ أَنَّ نَفْيَ الضِّدِّ كَأَنَّهُ يَقَعُ جَوَابًا لِمَنْ أَثْبَتَهُ يُخَالِفُ إِثْبَاتَ الصِّفَةِ. انْتَهَى.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ يَقَعُ فِي الْإِثْبَاتِ بِالْمُطَابَقَةِ وَفِي النَّفْيِ بِالِالْتِزَامِ، لَكِنَّ التَّنْظِيرَ صَحِيحٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَعْنَى الْمُرَادِ بِاللَّفْظَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَزْكِيَةٌ فِي حَقٍّ مَقْطُوعٍ بِتَزْكِيَتِهِ فَيَكُونُ مِنْ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، وَيَحْصُلُ الِانْفِصَالُ عَنْ ذَلِكَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا تَفْخِيمُ الْأَمْرِ وَتَقْوِيَتُهُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ. وَذَكَرَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ أَنَّ بَعْضَهُمُ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَلَامُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ بِقَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ وَهُوَ يَخْطُبُ يَقُولُ حَدَّثَنَا الْبَرَاءُ وَكَانَ غَيْرُ كَذُوبٍ قَالَ: وَهُوَ مُحْتَمَلٌ أَيْضًا.
قُلْتُ: لَكِنَّهُ أَبْعَدُ مِنَ الْأَوَّلِ. وَقَدْ وَجَدْتُ الْحَدِيثَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ وَفِيهِ قَوْلُهُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا الْبَرَاءُ وَهُوَ غَيْرُ كَذُوبٍ أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدٍ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ. . . فَذَكَرَهُ. وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ قَوْلُهُ: وَكَانَ غَيْرَ كَذُوبٍ، وَهَذَا يُقَوِّي أَنَّ الْكَلَامَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَائِدَةٌ): رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي مُسْنَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ هَذَا شَيْئًا يَدُلُّ عَلَى سَبَبِ رِوَايَتِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِهِ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِالْكُوفَةِ، فَكَانَ النَّاسُ يَضَعُونَ رُءُوسَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَضَعَ رَأْسَهُ وَيَرْفَعُونَ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي إِنْكَارِهِ عَلَيْهِمْ.
قَوْلُهُ: (إِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ: إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ: فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فَقَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، لَمْ نَزَلْ قِيَامًا.
قَوْلُهُ: (لَمْ يَحْنِ) بِفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ: لَمْ يَثْنِ، يُقَالُ: حَنَيْتُ الْعُودَ إِذَا ثَنَيْتُهُ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: لَا يَحْنُو، وَهِيَ لُغَةٌ صَحِيحَةٌ يُقَالُ: حَنَيْتُ وَحَنَوْتُ بِمَعْنًى.
قَوْلُهُ: (حَتَّى يَقَعَ سَاجِدًا) فِي رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: حَتَّى يَضَعَ جَبْهَتَهُ عَلَى الْأَرْضِ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ سُجُودِ السَّهْوِ، وَنَحْوِهِ لِمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ زُهَيْرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَلِأَحْمَدَ، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ: حَتَّى يَسْجُدَ ثُمَّ يَسْجُدُونَ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُومَ لَا يَشْرَعُ فِي الرُّكْنِ حَتَّى يُتِمَّهُ الْإِمَامُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا التَّأَخُّرُ حَتَّى يَتَلَبَّسَ الْإِمَامُ بِالرُّكْنِ الَّذِي يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ، بِحَيْثُ يَشْرَعُ الْمَأْمُومُ بَعْدَ شُرُوعِهِ وَقَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهُ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَكَانَ لَا يَحْنِي أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ حَتَّى يَسْتَتِمَّ سَاجِدًا، وَلِأَبِي يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: حَتَّى يَتَمَكَّنَ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ السُّجُودِ، وَهُوَ أَوْضَحُ فِي انْتِفَاءِ الْمُقَارَنَةِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى الطُّمَأْنِينَةِ وَفِيهِ نَظَرٌ، وَعَلَى جَوَازِ النَّظَرِ إِلَى الْإِمَامِ لِاتِّبَاعِهِ فِي انْتِقَالَاتِهِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ. . . نَحْوَهُ) هَكَذَا فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي، وَكَرِيمَةَ، وَسَقَطَ لِلْبَاقِينَ.
وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الصَّغَانِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ وَلَفْظُهُ: كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ النَّبِيِّ ﷺ لَمْ يَحْنِ أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ حَتَّى يَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ جَبْهَتَهُ.
٥٣ - بَاب إِثْمِ مَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ
٦٩١ - حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ قال: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: أَمَا يَخْشَى أَحَدُكُمْ - أَوْ: لَا يَخْشَى أَحَدُكُمْ - إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ، أَوْ