للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

الْمُتَعَفِّفِ عَنِ الْأَخْذِ وَلَوْ بَعْدَ أَنْ تُمَدَّ الْيَدُ يَدُ الْمُعْطِي مَثَلًا، وَهَذِهِ تُوصَفُ بِكَوْنِهَا عُلْيَا عُلُوًّا مَعْنَوِيًّا. رَابِعُهَا يَدُ الْآخِذِ بِغَيْرِ سُؤَالٍ، وَهَذِهِ قَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا، فَذَهَبَ جَمْعٌ إِلَى أَنَّهَا سُفْلَى، وَهَذَا بِالنَّظَرِ إِلَى الْأَمْرِ الْمَحْسُوسِ، وَأَمَّا الْمَعْنَوِيُّ فَلَا يَطَّرِدُ فَقَدْ تَكُونُ عُلْيَا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ كَلَامُ مَنْ أَطْلَقَ كَوْنَهَا عُلْيَا. قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: الْيَدُ الْمُتَصَدِّقَةُ أَفْضَلُ مِنَ السَّائِلَةِ لَا الْآخِذَةُ بِغَيْرِ سُؤَالٍ، إِذْ مُحَالٌ أَنْ تَكُونَ الْيَدُ الَّتِي أُبِيحَ لَهَا اسْتِعْمَالُ فِعْلٍ بِاسْتِعْمَالِهِ، دُونَ مَنْ فُرِضَ عَلَيْهِ إِتْيَانُ شَيْءٍ فَأَتَى بِهِ أَوْ تَقَرَّبَ إِلَى رَبِّهِ مُتَنَفِّلًا، فَرُبَّمَا كَانَ الْآخِذُ لِمَا أُبِيحُ لَهُ أَفْضَلَ وَأَوْرَعَ مِنَ الَّذِي يُعْطِي. انْتَهَى. وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: الْيَدُ الْعُلْيَا الْمُعْطِيَةُ وَالسُّفْلَى الْمَانِعَةُ وَلَمْ يُوَافَقْ عَلَيْهِ.

وَأَطْلَقَ آخَرُونَ مِنَ الْمُتَصَوِّفَةِ أَنَّ الْيَدَ الْآخِذَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْمُعْطِيَةِ مُطْلَقًا، وَقَدْ حَكَى ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ ذَلِكَ عَنْ قَوْمٍ ثُمَّ قَالَ: وَمَا أَرَى هَؤُلَاءِ إِلَّا قَوْمًا اسْتَطَابُوا السُّؤَالَ فَهُمْ يَحْتَجُّونَ لِلدَّنَاءَةِ، وَلَوْ جَازَ هَذَا لَكَانَ الْمَوْلَى مِنْ فَوْقُ هُوَ الَّذِي كَانَ رَقِيقًا فَأُعْتِقَ، وَالْمَوْلَى مِنْ أَسْفَلَ هُوَ السَّيِّدُ الَّذِي أَعْتَقَهُ. انْتَهَى. وَقَرَأْتُ فِي مَطْلَعِ الْفَوَائِدِ لِلْعَلَّامَةِ جَمَالِ الدِّينِ بْنِ نُبَاتَةَ فِي تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مَعْنًى آخَرَ، فَقَالَ: الْيَدُ هُنَا هِيَ النِّعْمَةُ، وَكَأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ الْعَطِيَّةَ الْجَزِيلَةَ خَيْرٌ مِنَ الْعَطِيَّةِ الْقَلِيلَةِ. قَالَ: وَهَذَا حَثٌّ عَلَى الْمَكَارِمِ بِأَوْجَزِ لَفْظٍ، وَيَشْهَدُ لَهُ أَحَدُ التَّأْوِيلَيْنِ فِي قَوْلِهِ: مَا أَبْقَتْ غِنًى. أَيْ: مَا حَصَلَ بِهِ لِلسَّائِلِ غِنًى عَنْ سُؤَالِهِ كَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِأَلْفٍ، فَلَوْ أَعْطَاهَا لِمِائَةِ إِنْسَانٍ لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِمُ الْغِنَى، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَعْطَاهَا لِرَجُلٍ وَاحِدٍ. قَالَ: وَهُوَ أَوْلَى مِنْ حَمْلِ الْيَدِ عَلَى الْجَارِحَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتَمِرُّ إِذْ فِيمَنْ يَأْخُذُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ عِنْدَ اللَّهِ مِمَّنْ يُعْطِي. قُلْتُ: التَّفَاضُلُ هُنَا يَرْجِعُ إِلَى الْإِعْطَاءِ وَالْأَخْذِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْمُعْطِي أَفْضَلَ مِنَ الْآخِذِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَقَدْ رَوَى إِسْحَاقُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْيَدُ الْعُلْيَا؟ قَالَ: الَّتِي تُعْطِي وَلَا تَأْخُذُ. فَقَوْلُهُ: وَلَا تَأْخُذُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْآخِذَةَ لَيْسَتْ بِعُلْيَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَكُلُّ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ الْمُتَعَسَّفَةِ تَضْمَحِلُّ عِنْدَ الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْمُصَرِّحَةِ بِالْمُرَادِ، فَأَوْلَى مَا فُسِّرَ الْحَدِيثُ بِالْحَدِيثِ، وَمُحَصَّلُ مَا فِي الْآثَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنْ أَعْلَى الْأَيْدِي الْمُنْفِقَةُ، ثُمَّ الْمُتَعَفِّفَةُ عَنِ الْأخِذِ، ثُمَّ الْآخِذَةُ بِغَيْرِ سُؤَالٍ. وَأَسْفَلُ الْأَيْدِي السَّائِلَةُ وَالْمَانِعَةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَفِي الْحَدِيثِ إِبَاحَةُ الْكَلَامِ لِلْخَطِيبِ بِكُلِّ مَا يَصْلُحُ مِنْ مَوْعِظَةٍ وَعِلْمٍ وَقُرْبَةٍ. وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي وُجُوهِ الطَّاعَةِ. وَفِيهِ تَفْضِيلُ الْغِنَى مَعَ الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ عَلَى الْفَقْرِ، لِأَنَّ الْعَطَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْغِنَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ فِي حَدِيثِ: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ. فِي أَوَاخِرِ صِفَةِ الصَّلَاةِ. وَفِيهِ كَرَاهَةُ السُّؤَالِ وَالتَّنْفِيرُ عَنْهُ، وَمَحِلُّهُ إِذَا لَمْ تَدْعُ إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ مِنْ خَوْفِ هَلَاكٍ وَنَحْوِهِ. وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِإِسْنَادٍ فِيهِ مَقَالٌ مَرْفُوعًا: مَا الْمُعْطِي مِنْ سَعَةٍ بِأَفْضَلَ مِنَ الْآخِذِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا. وَسَيَأْتِي حَدِيثُ حَكِيمٍ مُطَوَّلًا فِي بَابِ الِاسْتِعْفَافِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ وَفِيهِ بَيَانُ سَبَبِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

١٩ - بَاب الْمَنَّانِ بِمَا أَعْطَى، لِقَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى﴾ الْآيَةَ

قَوْلُهُ: (بَابُ الْمَنَّانِ بِمَا أَعْطَى، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى﴾ الْآيَةَ) هَذِهِ التَّرْجَمَةُ ثَبَتَتْ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَحْدَهُ بِغَيْرِ حَدِيثٍ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا: ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْمَنَّانُ الَّذِي لَا يُعْطِي شَيْئًا إِلَّا مَنَّ بِهِ. الْحَدِيثَ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ عَلَى شَرْطِهِ