وَرُجُوعُهُمْ إِلَى النُّصُوصِ، وَقَبُولُهُمْ لِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَوْ كَانَ تَابِعِيًّا، وَأَنَّ قَوْلَ بَعْضِهِمْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى بَعْضٍ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَوْ كَانَ مَعْنَى الِاقْتِدَاءِ فِي قَوْلِهِ ﷺ: أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ يُرَادُ بِهِ الْفَتْوَى لَمَا احْتَاجَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى دَعْوَاهُ، بَلْ كَانَ يَقُولُ لِلْمِسْوَرِ: أَنَا نَجْمٌ وَأَنْتَ نَجْمٌ فَبِأَيِّنَا اقْتَدَى مَنْ بَعْدُنَا كَفَاهُ. وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ كَمَا قَالَ الْمُزَنِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ أَنَّهُ فِي النَّقْلِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ عُدُولٌ. وَفِيهِ اعْتِرَافٌ لِلْفَاضِلِ بِفَضْلِهِ، وَإِنْصَافُ الصَّحَابَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَفِيهِ اسْتِتَارُ الْغَاسِلِ عِنْدَ الْغُسْلِ، وَالِاسْتِعَانَةُ فِي الطَّهَارَةِ، وَجَوَازُ الْكَلَامِ وَالسَّلَامِ حَالَةَ الطَّهَارَةِ، وَجَوَازُ غَسْلِ الْمُحْرِمِ وَتَشْرِيبِهِ شَعْرَهُ بِالْمَاءِ وَدَلْكِهِ بِيَدِهِ إِذَا أَمِنَ تَنَاثُرَهُ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْقُرْطُبِيُّ عَلَى وُجُوبِ الدَّلْكِ فِي الْغُسْلِ قَالَ: لِأَنَّ الْغُسْلَ لَوْ كَانَ يَتِمُّ بِدُونِهِ لَكَانَ الْمُحْرِمُ أَحَقَّ بِأَنْ يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهُ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ تَخْلِيلَ شَعْرِ اللِّحْيَةِ فِي الْوُضُوءِ بَاقٍ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: يُكْرَهُ، كَالْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ خَشْيَةَ انْتِتَافِ الشَّعْرِ؛ لِأَنَّ فِي الْحَدِيثِ ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ بِيَدِهِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ شَعْرِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ شَعْرَ الرَّأْسِ أَصْلَبُ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى فِي حَقِّ بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، قَالَهُ السُّبْكِيُّ الْكَبِيرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
١٥ - بَاب لُبْسِ الْخُفَّيْنِ لِلْمُحْرِمِ إِذَا لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ
١٨٤١ - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ زَيْدٍ، سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ ﵄ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ: مَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ لِلْمُحْرِمِ.
١٨٤٢ - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ﵁ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ؟ فَقَالَ: لَا يَلْبَسْ الْقَمِيصَ وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا الْبُرْنُسَ وَلَا ثَوْبًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ وَلَا وَرْسٌ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ لُبْسِ الْخُفَّيْنِ لِلْمُحْرِمِ إِذَا لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ) أَيْ: هَلْ يُشْتَرَطُ قَطْعُهُمَا أَوْ لَا؟ وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ، وَحَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ مَا لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ: عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ سُئِلَ رَسُولُ ﷺ قَالَ الْجَيَّانِيُّ: الصَّوَابُ مَا رَوَاهُ ابْنُ السَّكَنِ وَغَيْرُهُ فَقَالُوا: عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قُلْتُ: تَصَحَّفَتْ عَنْ فَصَارَتِ ابْنَ.
وَقَوْلُهُ: فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا فَلْيَلْبَسِ السَّرَاوِيلَ لِلْمُحْرِمِ أَيْ: هَذَا الْحُكْمُ لِلْمُحْرِمِ لَا الْحَلَالِ، فَلَا يَتَوَقَّفُ جَوَازُ لُبْسِهِ السَّرَاوِيلَ عَلَى فَقْدِ الْإِزَارِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَخَذَ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ أَحْمَدُ فَأَجَازَ لُبْسَ الْخُفِّ وَالسَّرَاوِيلِ لِلْمُحْرِمِ الَّذِي لَا يَجِدُ النَّعْلَيْنِ وَالْإِزَارَ عَلَى حَالِهِمَا. وَاشْتَرَطَ الْجُمْهُورُ قَطْعَ الْخُفِّ وَفَتْقَ السَّرَاوِيلِ، فَلَوْ لَبِسَ شَيْئًا مِنْهُمَا عَلَى حَالِهِ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ، وَالدَّلِيلُ لَهُمْ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَيُلْحَقُ النَّظِيرُ بِالنَّظِيرِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحُكْمِ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: الْأَوْلَى قَطْعُهُمَا عَمَلًا بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَخُرُوجًا مِنَ الْخِلَافِ. انْتَهَى.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute