وَالْبَاقِي مِثْلُهُ، وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ طَرِيقَ فُلَيْحٍ، عَنْ نَافِعٍ الْمُقْتَصِرَةَ عَلَى الْقِصَّةِ الْأُولَى بِزِيَادَةِ ذِكْرِ الدُّهْنِ الَّذِي لَيْسَتْ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، وَلَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ فُلَيْحٍ التَّصْرِيحُ بِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، لَكِنَّهُ مِنْ لَازِمِ الْمُوَجَّهِ إِلَى مَكَّةَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِالِاسْتِقْبَالِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى، وَهُمَا حَدِيثٌ وَاحِدٌ، وإِنَّمَا احْتَاجَ إِلَى رِوَايَةِ فُلَيْحٍ لِلنُّكْتَةِ الَّتِي بَيَّنْتُهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَنْدَفِعُ اعْتِرَاضُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ عَلَيْهِ فِي إِيرَادِهِ حَدِيثَ فُلَيْحٍ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ لِلِاسْتِقْبَالِ ذِكْرٌ. قَالَ الْمُهَلَّبُ: اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ بِالتَّلْبِيَةِ هُوَ الْمُنَاسِبُ، لِأَنَّهَا إِجَابَةٌ لِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَلِأَنَّ الْمُجِيبَ لَا يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يُوَلِّيَ الْمُجَابَ ظَهْرَهُ، بَلْ يَسْتَقْبِلَهُ، قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَدَّهِنُ لِيَمْنَعَ بِذَلِكَ الْقَمْلَ عَنْ شَعْرِهِ، وَيَجْتَنِبُ مَا لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ صِيَانَةً لِلْإِحْرَامِ.
٣٠ - باب التَّلْبِيَةِ إِذَا انْحَدَرَ فِي الْوَادِي
١٥٥٥ - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄، فَذَكَرُوا الدَّجَّالَ أَنَّهُ قَالَ: مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ أَسْمَعْهُ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: أَمَّا مُوسَى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ إِذا انْحَدَرَ فِي الْوَادِي يُلَبِّي.
[الحديث ١٥٥٥ - طرفاه في: ٣٣٥٥، ٥٩١٣]
قَوْلُهُ: (بَابُ التَّلْبِيَةِ إِذَا انْحَدَرَ فِي الْوَادِي) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَمَّا مُوسَى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ إِذَا انْحَدَرَ إِلَى الْوَادِي يُلَبِّي. وَفِيهِ قِصَّةٌ، وَسَيَأْتِي بِهَذا الْإِسْنَادِ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ. وَقَوْلُهُ: أَمَّا مُوسَى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: هَذَا وَهَمٌ مِنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ أَثَرٌ وَلَا خَبَرٌ أَنَّ مُوسَى حَيٌّ، وَأَنَّهُ سَيَحُجُّ، وإِنَّمَا أَتَى ذَلِكَ عَنْ عِيسَى، فَاشْتَبَهَ عَلَى الرَّاوِي، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ، انْتَهَى. وَهُوَ تَغْلِيطٌ لِلثِّقَاتِ بِمُجَرَّدِ التَّوَهُّمِ، فَسَيَأْتِي فِي اللِّبَاسِ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ بِزِيَادَةِ ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ فِيهِ، أَفَيُقَالُ: إِنَّ الرَّاوِيَ غَلِطَ فَزَادَهُ؟ وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى هَابِطًا مِنَ الثَّنِيَّةِ وَاضِعًا إِصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي وَلَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللَّهِ بِالتَّلْبِيَةِ، قَالَهُ لَمَّا مَرَّ بِوَادِي الْأَزْرَقِ. وَاسْتُفِيدَ مِنْهُ تَسْمِيَةُ الْوَادِي، وَهُوَ خَلْفَ أَمَجَّ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مِيلٌ وَاحِدٌ، وَأَمَجُّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ وَبِالْجِيمِ: قَرْيَةٌ ذَاتُ مَزَارِعَ هُنَاكَ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا ذِكْرُ يُونُسَ، أَفَيُقَالُ: إِنَّ الرَّاوِيَ الْآخَرَ غَلِطَ فَزَادَ يُونُسُ؟ وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: كَأَنِّي أَنْظُرُ عَلَى أَوْجُهٍ؛ الْأَوَّلُ: هُوَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَالْأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَلَا مَانِعُ أَنْ يَحُجُّوا فِي هَذَا الْحَالِ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّهُ ﷺ رَأَى مُوسَى قَائِمًا فِي قَبْرِهِ يُصَلِّي، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: حُبِّبَتْ إِلَيْهِمُ الْعِبَادَةُ، فَهُمْ يَتَعَبَّدُونَ بِمَا يَجِدُونَهُ مِنْ دَوَاعِي أَنْفُسِهِمْ لَا بِمَا يُلْزَمُونَ بِهِ، كَمَا يُلْهَمُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الذِّكْرَ. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ عَمَلَ الْآخِرَةِ ذِكْرٌ وَدُعَاءٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ﴾ الْآيَةَ، لَكِنَّ تَمَامَ هَذَا التَّوْجِيهِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمَنْظُورَ إِلَيْهِ هِيَ أَرْوَاحُهُمْ، فَلَعَلَّهَا مُثِّلَتْ لَهُ ﷺ فِي الدُّنْيَا كَمَا مُثِّلَتْ لَهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، وَأَمَّا أَجْسَادُهُمْ فَهِيَ فِي الْقُبُورِ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ وَغَيْرُهُ: يَجْعَلُ اللَّهُ لِرُوحِهِ مِثَالًا فَيَرَى فِي الْيَقَظَةَ كَمَا يَرَى فِي النَّوْمِ. ثَانِيهَا: كَأَنَّهُ مُثِّلَتْ لَهُ أَحْوَالُهُمُ الَّتِي كَانَتْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَيْفَ تَعَبَّدُوا وَكَيْفَ حَجُّوا وَكَيْفَ لَبَّوْا، وَلِهَذَا قَالَ: كَأَنِّي. ثَالِثُهَا: كَأَنَّهُ أُخْبِرَ بِالْوَحْيِ عَنْ ذَلِكَ، فَلِشِدَّةِ قَطْعِهِ بِهِ قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ.
رَابِعُهَا: كَأَنَّهَا رُؤْيَةُ مَنَامٍ تَقَدَّمَتْ لَهُ، فَأَخْبَرَ عَنْهَا لَمَّا حَجَّ عِنْدَمَا تَذَكَّرَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute