وَلَمْ تَشْغَلْهُ كَثْرَتُهُنَّ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ، بَلْ زَادَهُ ذَلِكَ عِبَادَةً لِتَحْصِينِهِنَّ وَقِيَامِهِ بِحُقُوقِهِنَّ وَاكْتِسَابِهِ لَهُنَّ وَهِدَايَتِهِ إِيَّاهُنَّ وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالتَّحْصِينِ قَصْرَ طَرْفِهِنَّ عَلَيْهِ فَلَا يَتَطَلَّعْنَ إِلَى غَيْرِهِ، بِخِلَافِ الْعَزَبَةِ فَإِنَّ الْعَفِيفَةَ تَتَطَلَّعُ بِالطَّبْعِ الْبَشَرِيِّ إِلَى التَّزْوِيجِ، وَذَلِكَ هُوَ الْوَصْفُ اللَّائِقُ بِهِنَّ. وَالَّذِي تَحَصَّلَ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْحِكْمَةِ فِي اسْتِكْثَارِهِ مِنَ النِّسَاءِ عَشَرَةُ أَوْجُهٍ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى بَعْضِهَا.
أَحَدُهَا: أَنْ يُكْثِرَ مَنْ يُشَاهِدُ أَحْوَالَهُ الْبَاطِنَةَ فَيَنْتَفِيَ عَنْهُ مَا يَظُنُّ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَنَّهُ سَاحِرٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ.
ثَانِيهَا: لِتَتَشَرَّفَ بِهِ قَبَائِلُ الْعَرَبِ بِمُصَاهَرَتِهِ فِيهِمْ.
ثَالِثُهَا: لِلزِّيَادَةِ فِي تَأَلُّفِهِمْ لِذَلِكَ.
رَابِعُهَا: لِلزِّيَادَةِ فِي التَّكْلِيفِ حَيْثُ كُلِّفَ أَنْ لَا يَشْغَلَهُ مَا حُبِّبَ إِلَيْهِ مِنْهُنَّ عَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّبْلِيغِ.
خَامِسُهَا: لِتَكْثُرَ عَشِيرَتُهُ مِنْ جِهَةِ نِسَائِهِ فَتُزَادَ أَعْوَانُهُ عَلَى مَنْ يُحَارِبُهُ.
سَادِسُهَا: نَقْلُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ، لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يَقَعُ مَعَ الزَّوْجَةِ مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يَخْتَفِيَ مِثْلُهُ.
سَابِعُهَا: الِاطِّلَاعُ عَلَى مَحَاسِنِ أَخْلَاقِهِ الْبَاطِنَةِ، فَقَدْ تَزَوَّجَ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأَبُوهَا إِذْ ذَاكَ يُعَادِيهِ، وَصَفِيَّةَ بَعْدَ قَتْلِ أَبِيهَا وَعَمِّهَا وَزَوْجِهَا، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَكْمَلَ الْخَلْقِ فِي خُلُقِهِ لَنَفَرْنَ مِنْهُ، بَلِ الَّذِي وَقَعَ أَنَّهُ كَانَ أَحَبَّ إِلَيْهِنَّ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِهِنَّ.
ثَامِنُهَا: مَا تَقَدَّمَ مَبْسُوطًا مِنْ خَرْقِ الْعَادَةِ لَهُ فِي كَثْرَةِ الْجِمَاعِ مَعَ التَّقَلُّلِ مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَكَثْرَةِ الصِّيَامِ وَالْوِصَالِ، وَقَدْ أَمَرَ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُؤَنِ النِّكَاحِ بِالصَّوْمِ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ كَثْرَتَهُ تَكْسِرِ شَهْوَتَهُ فَانْخَرَقَتْ هَذِهِ الْعَادَةُ فِي حَقِّهِ ﷺ.
تَاسِعُهَا، وَعَاشِرُهَا: مَا تَقَدَّمَ نَقْلُهُ عَنْ صَاحِبِ الشِّفَاءِ مِنْ تَحْصِينِهِنَّ وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِهِنَّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَوَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي آخِرِهِ أَمَا أنَّهُ يُسْتَخْرَجُ مِنْ صُلْبِكَ مَنْ كَانَ مُسْتَوْدَعًا وَفِي الْحَدِيثِ الْحَضُّ عَلَى التَّزَويجِ وَتَرْكِ الرَّهْبَانِيَّةِ.
٥ - بَاب مَنْ هَاجَرَ أَوْ عَمِلَ خَيْرًا لِتَزْوِيجِ امْرَأَةٍ فَلَهُ مَا نَوَى
٥٠٧٠ - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ،، حَدَّثَنَا مَالِكٌ،، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ،، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ،، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ،، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، ﵁ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: الْعَمَلُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ﷺ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ (بَابُ مَنْ هَاجَرَ أَوْ عَمِلَ خَيْرًا لِتَزْوِيجِ امْرَأَةٍ فَلَهُ مَا نَوَى) ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عُمَرَ بِلَفْظِ الْعَمَلُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، وَمَا تَرْجَمَ بِهِ مِنَ الْهِجْرَةِ مَنْصُوصٌ فِي الْحَدِيثِ، وَمَنْ عَمِلَ الْخَيْرَ، مُسْتَنْبَطٌ؛ لِأَنَّ الْهِجْرَةَ مِنْ جُمْلَةِ أَعْمَالِ الْخَيْرِ، فَكَمَا عَمَّمَ فِي الْخَيْرِ فِي شِقِّ الْمَطْلُوبِ وَتَمَّمَهُ بِلَفْظِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ فَكَذَلِكَ شِقُّ الطَّلَبِ يَشْمَلُ أَعْمَالَ الْخَيْرِ هِجْرَةً أَوْ حَجًّا مَثَلًا أَوْ صَلَاةً أَوْ صَدَقَةً، وَقِصَّةُ مُهَاجِرِ أُمِّ قَيْسٍ أَوْرَدَهَا الطَّبَرَانِيُّ مُسْنَدَةً وَالْآجُرِّيُّ فِي كِتَابِ الشَّرِيعَةِ بِغَيْرِ إِسْنَادٍ، وَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ أَوْ عَمِلَ خَيْرًا مَا وَقَعَ مِنْ أُمِّ سُلَيْمٍ فِي امْتِنَاعِهَا مِنَ التَّزْوِيجِ بِأَبِي طَلْحَةَ حَتَّى يُسْلِمَ، وَهُوَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ خَطَبَ أَبُو طَلْحَةَ أُمَّ سُلَيْمٍ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا مِثْلُكَ يَا أَبَا طَلْحَةَ يُرَدُّ، وَلَكِنَّكَ رَجُلٌ كَافِرٌ وَأَنَا امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ، وَلَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَتَزَوَّجَكَ، فَإِنْ تُسْلِمْ فَذَاكَ مَهْرِي، فَأَسْلَمَ فَكَانَ ذَلِكَ مَهْرَهَا الْحَدِيثَ.
وَوَجْهُ دُخُولِهِ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ رَغِبَتْ فِي تَزْوِيجِ أَبِي طَلْحَةَ وَمَنَعَهَا مِنْ ذَلِكَ كُفْرُهُ، فَتَوَصَّلَتْ إِلَى بُلُوغِ غَرَضِهَا بِبَذْلِ نَفْسِهَا فَظَفِرَتْ بِالْخَيْرَيْنِ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَهُ