الدَّاوُدِيَّ جَزَمَ بِذَلِكَ وَقَالَ: هُوَ مَا يُنْتَزَعُ عَنِ الْجِمَالِ يُشْبِهُ الصُّوفَ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: فَصُحِّفَ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي الْمُرَادِ بِالْأَوْتَارِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يُقَلِّدُونَ الْإِبِلَ أَوْتَارَ الْقَسِّيِّ لِئَلَّا تُصِيبَهَا الْعَيْنُ بِزَعْمِهِمْ، فَأُمِرُوا بِقَطْعِهَا، إِعْلَامًا بِأَنَّ الْأَوْتَارَ لَا تَرُدُّ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ شَيْئًا، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. قُلْتُ: وَقَعَ ذَلِكَ مُتَّصِلًا بِالْحَدِيثِ مِنْ كَلَامِهِ فِي الْمُوَطَّأِ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِمَا، قَالَ مَالِكٌ: أَرَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ الْعَيْنِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَفَعَهُ: مَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً فَلَا أَتَمَّ اللَّهُ لَهُ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا، وَالتَّمِيمَةُ: مَا عُلِّقَ مِنَ الْقَلَائِدِ خَشْيَةَ الْعَيْنِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِذَا اعْتَقَدَ الَّذِي قَلَّدَهَا أَنَّهَا تَرُدُّ الْعَيْنَ فَقَدْ ظَنَّ أَنَّهَا تَرُدُّ الْقَدَرَ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ اعْتِقَادُهُ.
ثَانِيهَا: النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ لِئَلَّا تَخْتَنِقَ الدَّابَّةُ بِهَا عِنْدَ شِدَّةِ الرَّكْضِ، وَيُحْكَى ذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَلَامُ أَبِي عُبَيْدٍ يُرَجِّحُهُ فَإِنَّهُ قَالَ: نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الدَّوَابَّ تَتَأَذَّى بِذَلِكَ وَيَضِيقُ عَلَيْهَا نَفَسُهَا وَرَعْيُهَا، وَرُبَّمَا تَعَلَّقَتْ بِشَجَرَةٍ فَاخْتَنَقَتْ أَوْ تَعَوَّقَتْ عَنِ السَّيْرِ. ثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَلِّقُونَ فِيهَا الْأَجْرَاسَ حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ تَبْوِيبُ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ مَرْفُوعًا: لَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا جَرَسٌ. وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَيْضًا، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ بِلَفْظِ لَا تَبْقَيَنَّ قِلَادَةٌ مِنْ وَتَرٍ وَلَا جَرَسٍ فِي عُنُقِ بَعِيرٍ إِلَّا قُطِعَ.
قُلْتُ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِبِلِ وَغَيْرِهَا فِي ذَلِكَ، إِلَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ فَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِتَعْلِيقِ الْأَجْرَاسِ فِي رِقَابِ الْخَيْلِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي وَهْبٍ الْحَسَّانِيِّ رَفَعَهُ: ارْبِطُوا الْخَيْلَ وَقَلِّدُوهَا، وَلَا تُقَلِّدُوهَا الْأَوْتَارَ. فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا اخْتِصَاصَ لِلْإِبِلِ، فَلَعَلَّ التَّقْيِيدَ بِهَا فِي التَّرْجَمَةِ لِلْغَالِبِ.
وَقَدْ حَمَلَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ الْأَوْتَارَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَعْنَى الثَّأْرِ فَقَالَ: مَعْنَاهُ: لَا تَطْلُبُوا بِهَا ذُحُولَ الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: ضَعِيفٌ. وَإِلَى نَحْوِ قَوْلِ النَّضْرِ جَنَحَ وَكِيعٌ فَقَالَ: الْمَعْنَى لَا تَرْكَبُوا الْخَيْلَ فِي الْفِتَنِ، فَإِنَّ مَنْ رَكِبَهَا لَمْ يَسْلَمْ أَنْ يَتَعَلَّقْ بِهِ وَتَرٌ يُطْلَبُ بِهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوْتَارِ جَمْعُ الْوَتَرِ، بِالتَّحْرِيكِ، لَا الْوَتْرِ بِالْإِسْكَانِ، مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ رُوَيْفِعِ بْنِ ثَابِتٍ رَفَعَهُ: مَنْ عَقَدَ لِحْيَتَهُ، أَوْ تَقَلَّدَ وَتَرًا، فَإِنَّ مُحَمَّدًا بَرِيءٌ مِنْهُ. فَإِنَّهُ عِنْدَ الرُّوَاةِ أَجْمَعَ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ، وَالْجَرَسُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالرَّاءِ ثُمَّ مُهْمَلَةٍ مَعْرُوفٌ، وَحَكَى عِيَاضٌ إِسْكَانَ الرَّاءِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الَّذِي بِالْفَتْحِ اسْمُ الْآلَةِ وَبِالْإِسْكَانِ اسْمُ الصَّوْتِ. وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: الْجَرَسُ مِزْمَارُ الشَّيْطَانِ. وَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْكَرَاهِيَةَ فِيهِ لِصَوْتِهِ لِأَنَّ فِيهَا شَبَهًا بِصَوْتِ النَّاقُوسِ وَشَكْلِهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ: الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لِلْكَرَاهَةِ وَأَنَّهَا كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ، وَقِيلَ: لِلتَّحْرِيمِ، وَقِيلَ: يُمْنَعُ مِنْهُ قَبْلَ الْحَاجَةِ، وَيَجُوزُ: إِذَا وَقَعَتِ الْحَاجَةُ. وَعَنْ مَالِكٍ تَخْتَصُّ الْكَرَاهَةُ مِنَ الْقَلَائِدِ بِالْوَتَرِ، وَيَجُوزُ بِغَيْرِهَا إِذَا لَمْ يُقْصَدْ دَفْعُ الْعَيْنِ.
هَذَا كُلُّهُ فِي تَعْلِيقِ التَّمَائِمِ وَغَيْرِهَا مِمَّا لَيْسَ فِيهِ قُرْآنٌ وَنَحْوُهُ، فَأَمَّا مَا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ فَلَا نَهْيَ فِيهِ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُجْعَلُ لِلتَّبَرُّكِ بِهِ وَالتَّعَوُّذِ بِأَسْمَائِهِ وَذِكْرِهِ، وَكَذَلِكَ لَا نَهْيَ عَمَّا يُعَلَّقُ لِأَجْلِ الزِّينَةِ مَا لَمْ يَبْلُغِ الْخُيَلَاءَ أَوِ السَّرَفَ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْلِيقِ الْجَرَسِ أَيْضًا.
ثَالِثُهَا يَجُوزُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ الصَّغِيرَ مِنْهَا دُونَ الْكَبِيرِ. وَأَغْرَبَ ابْنُ حِبَّانَ فَزَعَمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَصْحَبُ الرُّفْقَةَ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْجَرَسُ إِذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِيهَا.
١٤٠ - بَاب مَنْ اكْتُتِبَ فِي جَيْشٍ فَخَرَجَتْ امْرَأَتُهُ حَاجَّةً، أَوْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ، هَلْ يُؤْذَنُ لَهُ؟
٣٠٠٦ - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄