أُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَلَمْ يَأْكُلْهُ، فَقَامَ عَلَيْهِمْ سَائِلٌ، فَأَرَادَتْ عَائِشَةُ أَنْ تُعْطِيَهُ فَقَالَ لَهَا: أَتُعْطِيهِ مَا لَا تَأْكُلِينَ؟ قَالَ مُحَمَّدٌ: دَلَّ ذَلِكَ عَلَى كَرَاهَتِهِ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ وَتَعَقَّبَهُ الطَّحَاوِيُّ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ﴾ ثُمَّ سَاقَ الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى كَرَاهَةِ التَّصَدُّقِ بِحَشَفِ التَّمْرِ، وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُهَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ فِي بَابِ تَعْلِيقِ الْقِنْوِ فِي الْمَسْجِدِ وَبِحَدِيثِ الْبَرَاءِ كَانُوا يُحِبُّونَ الصَّدَقَةَ بِأَرْدَاءِ تَمْرِهِمْ، فَنَزَلَتْ ﴿أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾ الْآيَةَ. قَالَ: فَلِهَذَا الْمَعْنَى كَرِهَ لِعَائِشَةَ الصَّدَقَةَ بِالضَّبِّ لَا لِكَوْنِهِ حَرَامًا اهـ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فُهِمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْكَرَاهَةَ فِيهِ لِلتَّحْرِيمِ، وَالْمَعْرُوفُ عَنْ أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ فِيهِ كَرَاهَةُ التَّنْزِيَهِ. وَجَنَحَ بَعْضُهُمْ إِلَى التَّحْرِيمِ وَقَالَ: اخْتَلَفَتِ الْأَحَادِيثُ وَتَعَذَّرَتْ مَعْرِفَةُ الْمُتَقَدِّمِ فَرَجَّحْنَا جَانِبَ التَّحْرِيمِ تَقْلِيلًا لِلنَّسْخِ اهـ. وَدَعْوَاهُ التَّعَذُّرَ مَمْنُوعَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيَتَعَجَّبُ مِنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ حَيْثُ قَالَ: قَوْلُهُمْ إِنَّ الْمَمْسُوخَ لَا يَنْسِلُ دَعْوَى، فَإِنَّهُ أَمْرٌ لَا يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ وَإِنَّمَا طَرِيقُهُ النَّقْلُ، وَلَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، كَذَا قَالَ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحْضِرْهُ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، ثُمَّ قَالَ: وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ كَوْنِ الضَّبِّ مَمْسُوخًا فَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ أَكْلِهِ لِأَنَّ كَوْنَهُ آدَمِيًّا قَدْ زَالَ حُكْمُهُ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ أَثَرٌ أَصْلًا، وَإِنَّمَا كَرِهَ ﷺ الْأَكْلَ مِنْهُ لِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ كَمَا كَرِهَ الشُّرْبَ مِنْ مِيَاهِ ثَمُودَ اهـ. وَمَسْأَلَةُ جَوَازِ أَكْلِ الْآدَمِيِّ إِذَا مُسِخَ حَيَوَانًا مَأْكُولًا لَمْ أَرَهَا فِي كُتُبِ فُقَهَائِنَا. وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا الْإِعْلَامُ بِمَا شَكَّ فِيهِ لِإِيضَاحِ حُكْمِهِ، وَأَنَّ مُطْلَقَ النُّفْرَةِ وَعَدَمَ الِاسْتِطَابَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّحْرِيمَ، وَأَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ كَانَ لَا يَعِيبُ الطَّعَامَ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا صَنَعَهُ الْآدَمِيُّ لِئَلَّا يَنْكَسِرَ خَاطِرُهُ وَيُنْسَبَ إِلَى التَّقْصِيرِ فِيهِ ; وَأَمَّا الَّذِي خُلِقَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ نُفُورُ الطَّبْعِ مِنْهُ مُمْتَنِعًا.
وَفِيهِ أَنَّ وُقُوعَ مِثْلِ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَعِيبٍ مِمَّنْ يَقَعُ مِنْهُ خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُتَنَطِّعَةِ. وَفِيهِ أَنَّ الطِّبَاعَ تَخْتَلِفُ فِي النُّفُورِ عَنْ بَعْضِ الْمَأْكُولَاتِ، وَقَدْ يُسْتَنْبَطُ مِنْهُ أَنَّ اللَّحْمَ إِذَا أَنْتَنَ لَمْ يَحْرُمْ لِأَنَّ بَعْضَ الطِّبَاعِ لَا تَعَافُهُ. وَفِيهِ دُخُولُ أَقَارِبِ الزَّوْجَةِ بَيْتَهَا إِذَا كَانَ بِإِذْنِ الزَّوْجِ أَوْ رِضَاهُ، وَذَهَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هُنَا ذُهُولًا فَاحِشًا فَقَالَ: كَانَ دُخُولُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بَيْتَ النَّبِيِّ ﷺ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَبْلَ نُزُولِ الْحِجَابِ، وَغَفَلَ عَمَّا ذَكَرَهُ هُوَ أَنَّ إِسْلَامَ خَالِدٍ كَانَ بَيْنَ عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ وَالْفَتْحِ، وَكَانَ الْحِجَابُ قَبْلَ ذَلِكَ اتِّفَاقًا، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ قَالَ خَالِدٌ: أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَلَوْ كَانَتِ الْقِصَّةُ قَبْلَ الْحِجَابِ لَكَانَتْ قَبْلَ إِسْلَامِ خَالِدٍ، وَلَوْ كَانَتْ قَبْلَ إِسْلَامِهِ لَمْ يَسْأَلْ عَنْ حَلَالٍ وَلَا حَرَامٍ، وَلَا خَاطَبَ بِقَوْلِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَفِيهِ جَوَازُ الْأَكْلِ مِنْ بَيْتِ الْقَرِيبِ وَالصِّهْرِ وَالصَّدِيقِ، وَكَأَنَّ خَالِدًا وَمَنْ وَافَقَهُ فِي الْأَكْلِ أَرَادُوا جَبْرَ قَلْبِ الَّذِي أَهْدَتْهُ، أَوْ لِتَحَقُّقِ حُكْمِ الْحِلِّ، أَوْ لِامْتِثَالِ قَوْلِهِ ﷺ كُلُوا وَفَهِمَ مَنْ لَمْ يَأْكُلْ أَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ لِلْإِبَاحَةِ. وَفِيهِ أَنَّهُ ﷺ كَانَ يُؤَاكِلُ أَصْحَابَهُ وَيَأْكُلُ اللَّحْمَ حَيْثُ تَيَسَّرَ ; وَأَنَّهُ كَانَ لَا يَعْلَمُ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ إِلَّا مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِيهِ وُفُورُ عَقْلِ مَيْمُونَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَعَظِيمُ نَصِيحَتِهَا لِلنَّبِيِّ ﷺ، لِأَنَّهَا فَهِمَتْ مَظِنَّةَ نُفُورِهِ عَنْ أَكْلِهِ بِمَا اسْتَقَرَّتْ مِنْهُ، فَخَشِيَتْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَأَذَّى بِأَكْلِهِ لِاسْتِقْذَارِهِ لَهُ فَصَدَقَتْ فَرَاسَتُهَا. وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ خَشِيَ أَنْ يَتَقَذَّرَ شَيْئًا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُدَلِّسَ لَهُ لِئَلَّا يَتَضَرَّرَ بِهِ، وَقَدْ شُوهِدَ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ.
٣٤ - بَاب إِذَا وَقَعَتْ الْفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ الْجَامِدِ أَوْ الذَّائِبِ
٥٥٣٨ - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute