فَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَادِ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا هَذَا وَهُوَ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَاسْتَعْمَلَهُ الْمِقْدَادُ رَاوِي الْحَدِيثِ، وَالثَّانِي الْخَيْبَةُ وَالْحِرْمَانُ كَقَوْلِهِمْ لِمَنْ رَجَعَ خَائِبًا رَجَعَ وَكَفُّهُ مَمْلُوءَةٌ تُرَابًا. وَالثَّالِثُ قُالُوا لَهُ بِفِيكَ التُّرَابُ، وَالْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ ذَلِكَ لِمَنْ تَرَكهُ قَوْلَهُ. وَالرَّابِعُ أَنَّ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَمْدُوحِ كَأَنْ يَأْخُذَ تُرَابًا فَيَبْذُرَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ يَتَذَكَّرُ بِذَلِكَ مَصِيرَهُ إِلَيْهِ فَلَا يَطْغَى بِالْمَدْحِ الَّذِي سَمِعَهُ.
وَالْخَامِسُ الْمُرَادُ بِحَثْوِ التُّرَابِ فِي وَجْهِ الْمَادِحِ إِعْطَاؤُهُ مَا طُلِبَ لِأَنَّ كُلَّ الَّذِي فَوْقَ التُّرَابِ تُرَابٌ، وَبِهَذَا جَزَمَ الْبَيْضَاوِيُّ وَقَالَ: شَبَّهَ الْإِعْطَاءَ بِالْحَثْيِ عَلَى سَبِيلِ التَّرْشِيحِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي التَّقْلِيلِ وَالِاسْتِهَانَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ دَفْعُهُ عَنْهُ وَقَطْعُ لِسَانِهِ عَنْ عِرْضِهِ بِمَا يُرْضِيهِ مِنَ الرَّضْخِ، وَالدَّافِعُ قَدْ يَدْفَعُ خَصْمَهُ بِحَثْيِ التُّرَابِ عَلَى وَجْهِهِ اسْتِهَانَةً بِهِ.
وَأَمَّا الْأَثَرُ عَنْ عُمَرَ فَوَرَدَ مَرْفُوعًا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَأَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ، فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ: إِيَّاكُمْ وَالتَّمَادُحُ فَإِنَّهُ الذَّبْحُ، وَإِلَى لَفْظِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ رَمَزَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّرْجَمَةِ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مُطَوَّلًا، وَفِيهِ: وَإِيَّاكُمْ وَالْمَدْحَ فَإِنَّهُ مِنَ الذَّبْحِ، وَأَمَّا مَا مُدِحَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ فَقَدْ أَرْشَدَ مَادِحِيهِ إِلَى مَا يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ﷺ: لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ ضَبَطَ الْعُلَمَاءُ الْمُبَالَغَةَ الْجَائِزَةَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ الْمَمْنُوعَةِ بِأَنَّ الْجَائِزَةَ يَصْحَبُهَا شَرْطٌ أَوْ تَقْرِيبٌ، وَالْمَمْنُوعَةُ بِخِلَافِهَا، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا جَاءَ عَنِ الْمَعْصُومِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى قَيْدٍ كَالْأَلْفَاظِ الَّتِي وَصَفَ النَّبِيُّ ﷺ بِهَا بَعْضَ الصَّحَابَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ لِابْنِ عَمْرٍو: نِعْمَ الْعَبْدُ عَبْدُ اللَّهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ: آفَةُ الْمَدْحِ فِي الْمَادِحِ أَنَّهُ قَدْ يَكْذِبُ وَقَدْ يُرَائِي الْمَمْدُوحَ بِمَدْحِهِ وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ فَاسِقًا أَوْ ظَالِمًا، فَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ رَفَعَهُ: إِذَا مُدِحَ الْفَاسِقُ غَضِبَ الرَّبُّ، أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي الصَّمْتِ، وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ، وَقَدْ يَقُولُ مَا لَا يَتَحَقَّقُهُ مِمَّا لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ ﷺ: فَلْيَقُلْ أَحْسِبُ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ إِنَّهُ وَرِعٌ وَمُتَّقٍ وَزَاهِدٌ، بِخِلَافِ
مَا لَوْ قَالَ: رَأَيْتُهُ يُصَلِّي أَوْ يَحُجَّ أَوْ يُزَكِّي فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ الِاطِّلَاعُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ تَبْقَى الْآفَةُ عَلَى الْمَمْدُوحِ، فَإِنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يُحْدِثَ فِيهِ الْمَدْحُ كِبْرًا أَوْ إِعْجَابًا أَوْ يَكِلُهُ عَلَى مَا شَهَرَهُ بِهِ الْمَادِحُ فَيَفْتُرُ عَنِ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَسْتَمِرُّ فِي الْعَمَلِ غَالِبًا هُوَ الَّذِي يَعُدُّ نَفْسَهُ مُقَصِّرًا، فَإِنْ سَلِمَ الْمَدْحُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ، وَرُبَّمَا كَانَ مُسْتَحَبًّا، قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ لَمْ يَضُرَّهُ الْمَدْحُ، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِذَا مُدِحَ الرَّجُلُ فِي وَجْهِهِ فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ، وَلَا تُؤَاخِذنِي بِمَا يَقُولُونَ، وَاجْعَلْنِي خَيْرًا مِمَّا يَظُنُّونَ، أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ.
٥٥ - بَاب مَنْ أَثْنَى عَلَى أَخِيهِ بِمَا يَعْلَمُ
وَقَالَ سَعْدٌ: مَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ لِأَحَدٍ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ.
٦٠٦٢ - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حِينَ ذَكَرَ فِي الْإِزَارِ مَا ذَكَرَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ إِزَارِي يَسْقُطُ مِنْ أَحَدِ شِقَّيْهِ، قَالَ: إِنَّكَ لَسْتَ مِنْهُمْ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ أَثْنَى عَلَى أَخِيهِ بِمَا يَعْلَمُ) أَيْ فَهُوَ جَائِزٌ وَمُسْتَثْنًى مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَالضَّابِطُ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْمَدْحِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute