٣١ - بَاب ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ التَّهْلُكَةُ وَالْهَلَاكُ وَاحِدٌ.
٤٥١٦ - حَدَّثَني إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ قَالَ: نَزَلَتْ فِي النَّفَقَةِ.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِهِ: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ وَسَاقَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
قَوْلُهُ: (التَّهْلُكَةُ وَالْهَلَاكُ وَاحِدٌ) هُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَزَادَ: وَالْهَلَاكُ وَالْهُلْكُ، يَعْنِي بِفَتْحِ الْهَاءِ وَبِضَمِّهَا وَاللَّامُ سَاكِنَةٌ فِيهِمَا، وَكُلُّ هَذِهِ مَصَادِرُ هَلَكَ بِلَفْظِ الْفِعْلِ الْمَاضِي، وَقِيلَ: التَّهْلُكَةُ مَا أَمْكَنَ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَالْهَلَاكُ بِخِلَافِهِ. وَقِيلَ: التَّهْلُكَةُ نَفْسُ الشَّيْءِ الْمُهْلِكِ. وَقِيلَ: مَا تَضُرُّ عَاقِبَتُهُ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ حُذَيْفَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: نَزَلَتْ فِي النَّفَقَةَ، أَيْ: فِي تَرْكِ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﷿، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ حُذَيْفَةُ جَاءَ مُفَسَّرًا فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ أَسْلَمَ بْنِ عِمْرَانَ قَالَ: كُنَّا بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَخَرَجَ صَفٌّ عَظِيمٌ مِنَ الرُّومِ، فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ، ثُمَّ رَجَعَ مُقْبِلًا. فَصَاحَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ. فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تُؤَوِّلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، وَإِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ: إِنَّا لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ دِينَهُ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ قُلْنَا بَيْنَنَا سِرًّا: إِنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ، فَلَوْ أَنَّا أَقَمْنَا فِيهَا وَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، فَكَانَتِ التَّهْلُكَةُ الْإِقَامَةَ الَّتِي أَرَدْنَاهَا. وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ نَحْوُ ذَلِكَ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهَا كَانَتْ نَزَلَتْ فِي نَاسٍ كَانُوا يَغْزُونَ بِغَيْرِ نَفَقَةٍ، فَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِ اخْتِلَافِ الْمَأْمُورِينَ، فَالَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: أَنْفِقُوا وَأَحْسِنُوا، أَصْحَابُ الْأَمْوَالِ، وَالَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: وَلَا تُلْقُوا، الْغُزَاةُ بِغَيْرِ نَفَقَةٍ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ بْنِ أَبِي جُبَيْرَةَ: كَانَ الْأَنْصَارُ يَتَصَدَّقُونَ، فَأَصَابَتْهُمْ سَنَةٌ فَأَمْسَكُوا، فَنَزَلَتْ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ مُدْرِكِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: إِنِّي لَعِنْدَ عُمَرَ، فَقُلْتُ: إِنَّ لِي جَارًا رَمَى بِنَفْسِهِ فِي الْحَرْبِ فَقُتِلَ، فَقَالَ نَاسٌ: أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فَقَالَ عُمَرُ: كَذَبُوا، لَكِنَّهُ اشْتَرَى الْآخِرَةَ بِالدُّنْيَا.
وَجَاءَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي الْآيَةِ تَأْوِيلٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُمَا عَنْهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: قُلْتُ لِلْبَرَاءِ: أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ ﷿: ﴿وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ هُوَ الرَّجُلُ يَحْمِلُ عَلَى الْكَتِيبَةِ فِيهَا أَلْفٌ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يُذْنِبُ فَيُلْقِي بِيَدِهِ فَيَقُولُ لَا تَوْبَةَ لِي. وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ نَحْوَهُ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِتَصْدِيرِ الْآيَةِ بِذِكْرِ النَّفَقَةِ فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي نُزُولِهَا، وَأَمَّا قَصْرُهَا عَلَيْهِ فَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ، عَلَى أَنَّ أَحْمَدَ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ - وَهُوَ ابْنُ عَيَّاشٍ - عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بِلَفْظٍ آخَرَ قَالَ: قُلْتُ لِلْبَرَاءِ: الرَّجُلُ يَحْمِلُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَهُوَ مِمَّنْ أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ؟ قَالَ: لَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ بَعَثَ مُحَمَّدًا فَقَالَ: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ﴾ فَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي النَّفَقَةِ. فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَلَعَلَّ لِلْبَرَاءِ فِيهِ جَوَابَيْنِ، وَالْأَوَّلُ مِنْ رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ، وَإِسْرَائِيلَ، وَأَبِي الْأَحْوَصِ وَنَحْوِهِمْ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ أَتْقَنُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، فَكَيْفَ مَعَ اجْتِمَاعِهِمْ وَانْفِرَادِهِ اهـ.
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ حَمْلِ الْوَاحِدِ عَلَى الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنَ الْعَدُوِّ فَصَرَّحَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ إِنْ كَانَ لِفَرْطِ شَجَاعَتِهِ وَظَنِّهِ أَنَّهُ يُرْهِبُ الْعَدُوَّ بِذَلِكَ، أَوْ يُجَرِّئُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الصَّحِيحَةِ،