بِغَيْرِ إِبَانَةٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَلَمَّا آذَتْهُ انْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ فَنَكَأَهَا وَهُوَ بِالنُّونِ وَالْهَمْزِ، أَيْ: نَخَسَ مَوْضِعَ الْجُرْحِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ يَكُونَ فَجَّرَ الْجُرْحَ بِذُبَابَةِ السَّهْمِ فَلَمْ يَنْفَعْهُ فَحَزَّ مَوْضِعَهُ بِالسِّكِّينِ، وَدَلَّتْ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ عَلَى أَنَّ الْجُرْحَ كَانَ فِي يَدِهِ.
قَوْلُهُ: (فَمَا رَقَأَ الدَّمُ) بِالْقَافِ وَالْهَمْزِ، أَيْ: لَمْ يَنْقَطِعْ.
قَوْلُهُ: (قَالَ اللَّهُ ﷿: بَادَرَنِي عَبْدِي نفسه) هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِعْجَالِ الْمَذْكُورِ الْمَوْتَ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ.
وقَوْلُهُ: حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ جَارٍ مَجْرَى التَّعْلِيلِ لِلْعُقُوبَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ بِتَعَاطِي سَبَبِهِ مِنْ إِنْفَاذِ مَقَاتِلِهِ فَجَعَلَ لَهُ فِيهِ اخْتِيَارًا عَصَى اللَّهَ بِهِ فَنَاسَبَ أَنْ يُعَاقِبَهُ. وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ حَزَّهَا لِإِرَادَةِ الْمَوْتِ لَا لِقَصْدِ الْمُدَاوَاةِ الَّتِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ الِانْتِفَاعُ بِهَا. وَقَدِ اسْتُشْكِلَ قَوْلُهُ: بَادَرَنِي بِنَفْسِهِ وَقَوْلُهُ: حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَنْ قُتِلَ فَقَدْ مَاتَ قَبْلَ أَجَلِهِ لِمَا يُوهِمُهُ سِيَاقُ الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْتُلْ نَفْسَهُ كَانَ قَدْ تَأَخَّرَ عَنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَعَاشَ، لَكِنَّهُ بَادَرَ فَتَقَدَّمَ، وَالثَّانِي يَقْتَضِي تَخْلِيدَ الْمُوَحِّدِ فِي النَّارِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمُبَادَرَةَ مِنْ حَيْثُ التَّسَبُّبِ فِي ذَلِكَ وَالْقَصْدِ لَهُ وَالِاخْتِيَارِ، وَأَطْلَقَ عَلَيْهِ الْمُبَادَرَةَ لِوُجُودِ صُورَتِهَا، وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ الْمُعَاقَبَةَ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُطْلِعْهُ عَلَى انْقِضَاءِ أَجَلِهِ فَاخْتَارَ هُوَ قَتْلَ نَفْسِهِ فَاسْتَحَقَّ الْمُعَاقَبَةَ لِعِصْيَانِهِ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: قَضَاءُ اللَّهِ مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ بِصِفَةٍ، فَالْمُطْلَقُ يَمْضِي عَلَى الْوَجْهِ بِلَا صَارِفٍ، وَالْمُقَيَّدُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، مِثَالُهُ أَنْ يُقَدَّرَ لِوَاحِدٍ أَنَّ يَعِيشَ عِشْرِينَ سَنَةً إِنْ قَتَلَ نَفْسَهُ وَثَلَاثِينَ سَنَةً إِنْ لَمْ يَقْتُلْ وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَعْلَمُ بِهِ الْمَخْلُوقُ كَمَلَكِ الْمَوْتِ مَثَلًا، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا مَا عَلِمَهُ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ الْوَاجِبُ الْمُخَيَّرُ فَالْوَاقِعُ مِنْهُ مَعْلُومٌ عِنْدَ اللَّهِ وَالْعَبْدُ مُخَيَّرٌ فِي أَيِّ الْخِصَالِ يَفْعَلُ، وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي مِنْ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَانَ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ فَصَارَ كَافِرًا.
ثَانِيهَا: كَانَ كَافِرًا فِي الْأَصْلِ وَعُوقِبَ بِهَذِهِ الْمَعْصِيَةِ زِيَادَةً عَلَى كُفْرِهِ.
ثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْجَنَّةَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ فِي وَقْتٍ مَا كَالْوَقْتِ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ السَّابِقُونَ أَوِ الْوَقْتِ الَّذِي يُعَذَّبُ فِيهِ الْمُوَحِّدُونَ فِي النَّارِ ثُمَّ يَخْرُجُونَ.
رَابِعُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ جَنَّةٌ مُعَيَّنَةٌ كَالْفِرْدَوْسِ مَثَلًا.
خَامِسُهَا: أَنَّ ذَلِكَ وَرَدَ في سَبِيلِ التَّغْلِيظِ وَالتَّخْوِيفِ وَظَاهِرُهُ غَيْرُ مُرَادٍ.
سَادِسُهَا: أَنَّ التَّقْدِيرَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ الْجَنَّةُ إِنْ شِئْتَ اسْتِمْرَارَ ذَلِكَ.
سَابِعُهَا: قَالَ النَّوَوِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ شَرْعُ مَنْ مَضَى أَنَّ أَصْحَابَ الْكَبَائِرِ يَكْفُرُونَ بِفِعْلِهَا. وَفِي الْحَدِيثِ تَحْرِيمُ قَتْلِ النَّفْسِ سَوَاءٌ كَانَتْ نَفْسَ الْقَاتِلِ أَمْ غَيْرِهِ، وَقَتْلُ الْغَيْرِ يُؤْخَذُ تَحْرِيمُهُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَفِيهِ الْوُقُوفُ عِنْدَ حُقُوقِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ بِخَلْقِهِ حَيْثُ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ قَتْلَ نُفُوسِهِمْ وَأَنَّ الْأَنْفُسَ مِلْكُ اللَّهِ. وَفِيهِ التَّحْدِيثُ عَنِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَفَضِيلَةُ الصَّبْرِ عَلَى الْبَلَاءِ وَتَرْكُ التَّضَجُّرِ مِنَ الْآلَامِ لِئَلَّا يُفْضِي إِلَى أَشَدَّ مِنْهَا. وَفِيهِ تَحْرِيمُ تَعَاطِي الْأَسْبَابِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى قَتْلِ النَّفْسِ. وَفِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ السِّرَايَةِ عَلَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءُ الْقَتْلِ. وَفِيهِ الِاحْتِيَاطُ فِي التَّحْدِيثِ وَكَيْفِيَّةُ الضَّبْطِ لَهُ وَالتَّحَفُّظُ فِيهِ بِذِكْرِ الْمَكَانِ وَالْإِشَارَةُ إِلَى ضَبْطِ الْمُحَدِّثِ وَتَوْثِيقِهِ لِمَنْ حَدَّثَهُ لِيَرْكَنَ السَّامِعُ لِذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
٥١ - باب حَدِيث أَبْرَصَ وَأَعْمَى وَأَقْرَعَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ
٣٤٦٤ - حَدَّثَنا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ. ح.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، أَخْبَرَنَا هَمَّامٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ ﵁ حَدَّثَهُ،