للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

إِنَّ مَنْ وُجِدَ عَنْهُ صَرِيحُ النَّفْيِ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ مَنْ وُجِدَ مِنْهُ صَرِيحُ الْإِثْبَاتِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَرَوَى ذَلِكَ عَنْهُمْ أَمْثَالُهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ. ثُمَّ نَقَلَهُ عَنْهُمُ الْجَمُّ الْغَفِيرُ إِلَى أَنِ انْتَهَى إِلَيْنَا، وَيُؤَيَّدُ ذَلِكَ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فَلَمْ يَبْقَ لِاسْتِبْعَادِ مَنِ اسْتَبْعَدَ وُقُوعَهُ عُذْرٌ. ثُمَّ أَجَابَ بِنَحْوِ جَوَابِ الْخَطَّابِيِّ وَقَالَ: وَقَدْ يَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ قَبْلَ طُلُوعِهِ عَلَى آخَرِينَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ زَمَنَ الِانْشِقَاقِ لَمْ يَطُلْ وَلَمْ تَتَوَفَّرِ الدَّوَاعِي عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ بَعَثَ أَهْلُ مَكَّةَ إِلَى آفَاقِ مَكَّةَ يَسْأَلُونَ عَنْ ذَلِكَ فَجَاءَتِ السِّفَارُ وَأَخْبَرُوا بِأَنَّهُمْ عَايَنُوا ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسَافِرِينَ فِي اللَّيْلِ غَالِبًا يَكُونُونَ سَائِرِينَ فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْمَوَانِعُ مِنْ مُشَاهَدَةِ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَحْصُلِ الْقَصْدُ إِلَيْهِ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ صَرَفَ جَمِيعَ أَهْلِ الْأَرْضِ غَيْرَ أَهْلِ مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْقَمَرِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ لِيَخْتَصَّ بِمُشَاهَدَتِهِ أَهْلَ مَكَّةَ كَمَا اخْتَصُّوا بِمُشَاهَدَةِ أَكْثَرِ الْآيَاتِ وَنَقَلُوهَا إِلَى غَيْرِهِمْ. اهـ. وَفِي كَلَامِهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يَنْقُلْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْآفَاقِ غَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ رَصَدُوا الْقَمَرَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ الْمُعَيَّنَةِ فَلَمْ يُشَاهِدُوا انْشِقَاقَهُ، فَلَوْ نُقِلَ ذَلِكَ لَكَانَ الْجَوَابُ الَّذِي أَبْدَاهُ الْقُرْطُبِيُّ جَيِّدًا، وَلَكِنْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَالِاقْتِصَارُ حِينَئِذٍ عَلَى أَنَّ الْجَوَابَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ أَوْضَحُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا الْآيَةُ فَالْمُرَادُ بِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾ لَكِنْ ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الْقُدَمَاءِ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾ أَيْ سَيَنْشَقُّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ﴾ أَيْ سَيَأْتِي، وَالنُّكْتَةُ فِي ذَلِكَ إِرَادَةُ الْمُبَالَغَةِ فِي تَحَقُّقِ وُقُوعِ ذَلِكَ، فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْوَاقِعِ. وَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَصَحُّ كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَحُذَيْفَةُ وَغَيْرُهُمَا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾؛ فَإِنَّ ذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾ وُقُوعُ انْشِقَاقِهِ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَقُولُونَ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ فِي الدُّنْيَا تَبَيَّنَ وُقُوعُ الِانْشِقَاقِ وَأَنَّهُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الَّتِي زَعَمُوا أَنَّهَا سِحْرٌ، وَوَقَعَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ كَمَا بَيَّنَّاهُ قَبْلُ، وَنَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ فِي أَوَائِلِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ عَنِ الْحَلِيمِيِّ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾؛ أَيْ سَيَنْشَقُّ، قَالَ الْحَلِيمِيُّ: فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ وَقَعَ فِي عَصْرِنَا، فَشَاهَدْتُ الْهِلَالَ بِبُخَارَى فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ مُنْشَقًّا نِصْفَيْنِ عَرْضُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَعَرْضِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ أَرْبَعٍ أَوْ خَمْسٍ، ثُمَّ اتَّصَلَا فَصَارَ فِي شَكْلِ أُتْرُجَّةٍ إِلَى أَنْ غَابَ. قَالَ: وَأَخْبَرَنِي بَعْضُ مِنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّهُ شَاهَدَ ذَلِكَ فِي لَيْلَةٍ أُخْرَى. اهـ.

وَلَقَدْ عَجِبْتُ مِنَ الْبَيْهَقِيِّ، كَيْفَ أَقَرَّ هَذَا مَعَ إِيرَادِهِ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُصَرِّحِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ فَإِنَّهُ سَاقَهُ هَكَذَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾ قَالَ: لَقَدِ انْشَقَّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَقَدْ مَضَتْ آيَةُ الدُّخَانِ وَالرُّومِ وَالْبَطْشَةِ وَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ الْأَخِيرِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الدُّخَانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

٣٧ - بَاب هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ.

وَقَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ النَّبِيُّ : أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ، فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ، وَرَجَعَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ،