فِي الْهِبَةِ: حَتَّى نَفِدَهَا أَيْ: فَرَّغَهَا، فَأَيُّ شَيْءٍ يَبْقَى مِنْهَا حِينَئِذٍ حَتَّى يَأْمُرَ أَصْحَابَهُ بِأَكْلِهِ، لَكِنَّ رِوَايَةَ أَبِي مُحَمَّدٍ الْآتِيَةَ فِي الصَّيْدِ: أَبَقِيَ مَعَكُمْ شَيْءٌ مِنْهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: كُلُوا؛ فَهُوَ طُعْمَةٌ أَطْعَمَكُمُوهَا اللَّهُ فَأَشْعَرَ بِأَنَّهُ بَقِيَ مِنْهَا غَيْرُ الْعَضُدِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي حُكْمِ مَا يَصِيدُهُ الْحَلَالُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُحْرِمِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ مِنَ الْفَوَائِدِ أَنَّ تَمَنِّي الْمُحْرِمِ أَنْ يَقَعَ مِنَ الْحَلَالِ الصَّيْدُ لِيَأْكُلَ الْمُحْرِمُ مِنْهُ لَا يَقْدَحُ فِي إِحْرَامِهِ، وَأَنَّ الْحَلَالَ إِذَا صَادَ لِنَفْسِهِ جَازَ لِلْمُحْرِمِ الْأَكْلُ مِنْ صَيْدِهِ، وَهَذَا يُقَوِّي مِنْ حَمْلِ الصَّيْدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ﴾ عَلَى الِاصْطِيَادِ، وَفِيهِ الِاسْتِيهَابُ مِنَ الْأَصْدِقَاءِ وَقَبُولُ الْهَدِيَّةِ مِنَ الصَّدِيقِ. وَقَالَ عِيَاضٌ: عِنْدِي أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ طَلَبَ مِنْ أَبِي قَتَادَةَ ذَلِكَ تَطْيِيبًا لِقَلْبِ مَنْ أَكَلَ مِنْهُ؛ بَيَانًا لِلْجَوَازِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ لِإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُمْ، وَفِيهِ تَسْمِيَةُ الْفَرَسِ، وَأَلْحَقَ الْمُصَنِّفُ بِهِ الْحِمَارَ فَتَرْجَمَ لَهُ فِي الْجِهَادِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَالُوا: تَجُوزُ التَّسْمِيَةُ لِمَا لَا يَعْقِلُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَفَطَّنُ لَهُ وَلَا يُجِيبُ إِذَا نُودِيَ، مَعَ أَنَّ بَعْضَ الْحَيَوَانَاتِ رُبَّمَا أَدْمَنَ عَلَى ذَلِكَ بِحَيْثُ يَصِيرُ يُمَيِّزُ اسْمَهُ إِذَا دُعِيَ بِهِ. وَفِيهِ إِمْسَاكُ نَصِيبِ الرَّفِيقِ الْغَائِبِ مِمَّنْ يَتَعَيَّنُ احْتِرَامُهُ أَوْ تُرْجَى بَرَكَتُهُ أَوْ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ ظُهُورُ حُكْمِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِخُصُوصِهَا. وَفِيهِ تَفْرِيقُ الْإِمَامِ أَصْحَابَهُ لِلْمَصْلَحَةِ، وَاسْتِعْمَالُ الطَّلِيعَةِ فِي الْغَزْوِ، وَتَبْلِيغُ السَّلَامِ عَنْ قُرْبٍ وَعَنْ بُعْدٍ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ تَرْكِ رَدِّ السَّلَامِ مِمَّنْ بَلَغَهُ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ وَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ مَا يَنْفِيهِ.
وَفِيهِ أَنَّ عَقْرَ الصَّيْدِ ذَكَاتُهُ، وَجَوَازُ الِاجْتِهَادِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هُوَ اجْتِهَادٌ بِالْقُرْبِ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ لَا فِي حَضْرَتِهِ. وَفِيهِ الْعَمَلُ بِمَا أَدَّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَادُ وَلَوْ تَضَادَّ الْمُجْتَهِدَانِ، وَلَا يُعَابُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى ذَلِكَ لِقَوْلِهِ: فَلَمْ يَعِبْ ذَلِكَ عَلَيْنَا وَكَأَنَّ الْآكِلَ تَمَسَّكَ بِأَصْلِ الْإِبَاحَةِ، وَالْمُمْتَنِعَ نَظَرَ إِلَى الْأَمْرِ الطَّارِئِ. وَفِيهِ الرُّجُوعُ إِلَى النَّصِّ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ، وَرَكْضُ الْفَرَسِ فِي الِاصْطِيَادِ، وَالتَّصَيُّدُ فِي الْأَمَاكِنِ الْوَعِرَةِ، وَالِاسْتِعَانَةُ بِالْفَارِسِ، وَحَمْلُ الزَّادِ فِي السَّفَرِ، وَالرِّفْقُ بِالْأَصْحَابِ وَالرُّفَقَاءِ فِي السَّيْرِ، وَاسْتِعْمَالُ الْكِنَايَةِ فِي الْفِعْلِ كَمَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْقَوْلِ؛ لِأَنَّهُمُ اسْتَعْمَلُوا الضَّحِكَ فِي مَوْضِعِ الْإِشَارَةِ لِمَا اعْتَقَدُوهُ مِنْ أَنَّ الْإِشَارَةَ لَا تَحِلُّ. وَفِيهِ جَوَازُ سَوْقِ الْفَرَسِ لِلْحَاجَةِ وَالرِّفْقُ بِهِ مَعَ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ: وَأَسِيرُ شَأْوًا وَنُزُولُ الْمُسَافِرِ وَقْتَ الْقَائِلَةِ، وَفِيهِ ذِكْرُ الْحُكْمِ مَعَ الْحِكْمَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا هِيَ طُعْمَةٌ أَطْعَمَكُمُوهَا اللَّهُ.
(تَكْمِلَةٌ) لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ قَتْلُ الصَّيْدِ إِلَّا إِنْ صَالَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ دَفْعًا فَيَجُوزُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
٦ - بَاب إِذَا أَهْدَى لِلْمُحْرِمِ حِمَارًا وَحْشِيًّا حَيًّا لَمْ يَقْبَلْ
١٨٢٥ - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ، أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ حِمَارًا وَحْشِيًّا وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ - أَوْ بِوَدَّانَ - فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ: إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ.
[الحديث ١٨٢٥ - طرفاه في: ٢٥٧٣، ٢٥٩٦]
قَوْلُهُ: (بَابٌ إِذَا أَهْدَى) أَيِ: الْحَلَالُ (لِلْمُحْرِمِ حِمَارًا وَحْشِيًّا حَيًّا لَمْ يَقْبَلْ) كَذَا قَيَّدَهُ فِي التَّرْجَمَةِ بِكَوْنِهِ حَيًّا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَذْبُوحًا مُوَهَّمَةٌ، وَسَأُبَيِّنُ مَا فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ. . . إِلَخْ) لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَى مَالِكٍ فِي سِيَاقِهِ مُعَنْعَنًا، وَأَنَّهُ مِنْ مُسْنَدِ الصَّعْبِ، إِلَّا مَا وَقَعَ فِي مُوَطَّأِ ابْنِ وَهْبٍ فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ أَهْدَى فَجَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِ ابْنِ عَبَّاسٍ، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْمُوَطَّآتِ