فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً.
قَوْلُهُ في حديث أنس: (تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً) هُوَ بِفَتْحِ السِّينِ وَبِضَمِّهَا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَرَكَةِ الْأَجْرُ وَالثَّوَابُ فَيُنَاسِبُ الضَّمُّ؛ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى التَّسَحُّرِ، أَوِ الْبَرَكَةُ لِكَوْنِهِ يُقَوِّي عَلَى الصَّوْمِ وَيُنَشِّطُ لَهُ وَيُخَفِّفُ الْمَشَقَّةَ فِيهِ فَيُنَاسِبُ الْفَتْحَ؛ لِأَنَّهُ مَا يُتَسَحَّرُ بِهِ، وَقِيلَ: الْبَرَكَةُ مَا يُتَضَمَّنُ مِنَ الِاسْتِيقَاظِ وَالدُّعَاءِ فِي السَّحَرِ، وَالْأَوْلَى أَنَّ الْبَرَكَةَ فِي السُّحُورِ تَحْصُلُ بِجِهَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَهِيَ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ، وَمُخَالَفَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالتَّقَوِّي بِهِ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَالزِّيَادَةُ فِي النَّشَاطِ، وَمُدَافَعَةُ سُوءِ الْخُلُقِ الَّذِي يُثِيرُهُ الْجُوعُ، وَالتَّسَبُّبُ بِالصَّدَقَةِ عَلَى مَنْ يَسْأَلُ إِذْ ذَاكَ أَوْ يَجْتَمِعُ مَعَهُ عَلَى الْأَكْلِ، وَالتَّسَبُّبُ لِلذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَقْتَ مَظِنَّةِ الْإِجَابَةِ، وَتَدَارُكُ نِيَّةِ الصَّوْمِ لِمَنْ أَغْفَلَهَا قَبْلَ أَنْ يَنَامَ.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هَذِهِ الْبَرَكَةُ يَجُوزُ أَنْ تَعُودَ إِلَى الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ فَإِنَّ إِقَامَةَ السُّنَّةِ يُوجِبُ الْأَجْرَ وَزِيَادَتَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَعُودَ إِلَى الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ كَقُوَّةِ الْبَدَنِ عَلَى الصَّوْمِ وَتَيْسِيرِهِ مِنْ غَيْرِ إِضْرَارٍ بِالصَّائِمِ. قَالَ وَمِمَّا يُعَلَّلُ بِهِ اسْتِحْبَابُ السُّحُورِ الْمُخَالَفَةُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ مُمْتَنِعٌ عِنْدَهُمْ، وَهَذَا أَحَدُ الْوُجُوهِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلزِّيَادَةِ فِي الْأُجُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ. وَقَالَ أَيْضًا: وَقَعَ لِلْمُتَصَوِّفَةِ فِي مَسْأَلَةِ السُّحُورِ كَلَامٌ مِنْ جِهَةِ اعْتِبَارِ حُكْمِ الصَّوْمِ وَهِيَ كَسْرُ شَهْوَةِ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ، وَالسُّحُورُ قَدْ يُبَايِنُ ذَلِكَ. قَالَ: وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ مَا زَادَ فِي الْمِقْدَارِ حَتَّى تَنْعَدِمَ هَذِهِ الْحِكْمَةُ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَيْسَ بِمُسْتَحَبٍّ كَالَّذِي صَنَعَهُ الْمُتْرَفُونَ مِنَ التَّأَنُّقِ فِي الْمَآكِلِ وَكَثْرَةِ الِاسْتِعْدَادِ لَهَا، وَمَا عَدَا ذَلِكَ تَخْتَلِفُ مَرَاتِبُهُ.
(تَكْمِيلٌ): يَحْصُلُ السُّحُورُ بِأَقَلِّ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْمَرْءُ مِنْ مَأْكُولٍ وَمَشْرُوبٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ بِلَفْظِ: السُّحُورُ بَرَكَةٌ فَلَا تَدَعُوهُ وَلَوْ أَنْ يَجْرَعَ أَحَدُكُمْ جَرْعَةً مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ وَلِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى مُرْسَلَةٍ: تَسَحَّرُوا وَلَوْ بِلُقْمَةٍ.
٢١ - بَاب إِذَا نَوَى بِالنَّهَارِ صَوْمًا
وَقَالَتْ أُمَّ الدَّرْدَاءِ: كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: عِنْدَكُمْ طَعَامٌ؟ فَإِنْ قُلْنَا: لَا، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ يَوْمِي هَذَا، وَفَعَلَهُ أَبُو طَلْحَةَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَحُذَيْفَةُ ﵃
١٩٢٤ - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ ﵁ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَعَثَ رَجُلًا يُنَادِي فِي النَّاسِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ: إِنَّ مَنْ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ أَوْ فَلْيَصُمْ، وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلَا يَأْكُلْ.
[الحديث ١٩٢٤ - طرفاه في: ٢٠٠٧، ٧٢٦٥]
قَوْلُهُ: (بَابٌ إِذَا نَوَى بِالنَّهَارِ صَوْمًا) أَيْ: هَلْ يَصِحُّ مُطْلَقًا أَوْ لَا؟ وَلِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّ جَوَازَ النَّفْلِ بِمَا قَبْلَ الزَّوَالِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: عِنْدَكُمْ طَعَامٌ؟ فَإِنْ قُلْنَا: لَا، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ يَوْمِي هَذَا) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ قَالَتْ: كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَغْدُونَا أَحْيَانًا ضُحًى فَيَسْأَلُ الْغَدَاءَ، فَرُبَّمَا لَمْ يُوَافِقْهُ عِنْدَنَا فَيَقُولُ: إِذًا أَنَا صَائِمٌ وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ وَعَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ كَانَ إِذَا أَصْبَحَ سَأَلَ أَهْلَهُ الْغَدَاءَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَالَ: أَنَا صَائِمٌ، وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي أَهْلَهُ حِينَ يَنْتَصِفُ النَّهَارُ فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَمِنْ طَرِيقِ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أُمِّ