لَا تُؤْذِ صَاحِبَ الْقَبْرِ.
إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجُلُوسِ الْقُعُودُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَرَدَّ ابْنُ حَزْمٍ التَّأْوِيلَ الْمُتَقَدِّمَ بِأَنَّ لَفْظَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: لَأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إِلَى جِلْدِهِ. قَالَ: وَمَا عَهِدْنَا أَحَدًا يَقْعُدُ عَلَى ثِيَابِهِ لِلْغَائِطِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْقُعُودُ عَلَى حَقِيقَتِهِ. وَقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: التَّأْوِيلُ الْمَذْكُورُ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ عَلَى الْقَبْرِ أَقْبَحُ مِنْ أَنْ يُكْرَهَ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ الْجُلُوسُ الْمُتَعَارَفُ (١).
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ: لَمْ أَرَهُ مَنْسُوبًا لِأَحَدٍ مِنَ الْمَشَايِخِ. قُلْتُ: قَدْ نَسَبَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ يَحْيَى بْنَ جَعْفَرٍ، وَجَزَمَ أَبُو مَسْعُودٍ فِي الْأَطْرَافِ وَتَبِعَهُ الْمِزِّيُّ بِأَنَّهُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ شَبُّوَيْهِ، عَنِ الْفَرَبْرِيِّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى. وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي كِتَابِ الْوُضُوءِ بِمَا فِيهِ مَقْنَعٌ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
٨٢ - بَاب مَوْعِظَةِ الْمُحَدِّثِ عِنْدَ الْقَبْرِ، وَقُعُودِ أَصْحَابِهِ حَوْلَهُ
﴿يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ﴾ الْأَجْدَاثُ: الْقُبُورُ، ﴿بُعْثِرَتْ﴾ أُثِيرَتْ، بَعْثَرْتُ حَوْضِي أَيْ: جَعَلْتُ أَسْفَلَهُ أَعْلَاهُ، الْإِيفَاضُ: الْإِسْرَاعُ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: ﴿إِلَى نُصُبٍ﴾ إِلَى شَيْءٍ مَنْصُوبٍ يَسْتَبِقُونَ إِلَيْهِ، وَالنُّصْبُ وَاحِدٌ، وَالنَّصْبُ مَصْدَرٌ، ﴿يَوْمُ الْخُرُوجِ﴾ مِنْ الْقُبُورِ، ﴿يَنْسِلُونَ﴾ يَخْرُجُونَ
١٣٦٢ - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَلِيٍّ ﵁ قَالَ: كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، فَأَتَانَا النَّبِيُّ ﷺ فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ، وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ، فَنَكَّسَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ؛ مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلَّا كُتِبَ مَكَانُهَا مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإِلَّا قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ، فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، قَالَ: أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ، فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ الشَّقَاوَةِ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى﴾ الْآيَةَ.
[الحديث ١٣٦٢ - أطرافه في: ٤٩٤٥، ٤٩٤٦، ٤٩٤٧، ٤٩٤٨، ٤٩٤٩، ٦٢١٧، ٦٦٠٥، ٧٥٥٢]
قَوْلُهُ: (بَابُ مَوْعِظَةِ الْمُحَدِّثِ عِنْدَ الْقَبْرِ وَقُعُودِ أَصْحَابِهِ حَوْلَهُ) كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى التَّفْصِيلِ بَيْنَ أَحْوَالِ الْقُعُودِ، فَإِنْ كَانَ لِمَصْلَحَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالْحَيِّ أَوِ الْمَيِّتِ لَمْ يُكْرَهْ، وَيُحْمَلُ النَّهْيُ الْوَارِدُ عَنْ ذَلِكَ عَلَى مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (يَخْرُجُونَ مِنَ
(١) ويؤيده ما ذهب إليه الجمهور من النهي عن القعود على القبور مطلقا ما رواه مسلم في صحيحه عن جابر قال "تهى رسول الله ﷺ أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبني عليه". وهذا الحديث الصحيح وما جاء في معناه يدل على تحريم تجصيص القبور والبناء عليها، لأن ذلك من تعظيمها وهو من وسائل الشرك كما وقع ذلك في كثير من الأمصار. فالواجب على أهل العلم وعلى جميع المسلمين إنكاره والتحذير منه. وإذا كان البناء على القبر مسجدا صارت المعصية أعظم، والوسيلة به إلى الشرك أظهر، ولهذا صح عن النبي ﷺ أنه لعن من اتخذ القبور مساجد وقال ﵊ "ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك"