مَنْ يَتَوَهَّمُ تَفَرُّدَ حَبَّانَ بْنِ هِلَالٍ بِهِ فَيَظُنُّ أَنَّهُ لَمْ يَرَوْهِ غَيْرُهُمَا، وَلَمْ يُرِدِ الْبُخَارِيُّ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ إِزَالَةَ تَوَهُّمِ التَّفَرُّدِ بِهِ فَقَطْ، وَلَمْ يُرِدِ الْحَصْرَ فِيهِمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
٣٢ - بَاب الرُّقَى بِالْقُرْآنِ وَالْمُعَوِّذَاتِ
٥٧٣٥ - حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ ﵂ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَنْفُثُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْمَرَضِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ، فَلَمَّا ثَقُلَ كُنْتُ أَنْفِثُ عَلَيْهِ بِهِنَّ، وَأَمْسَحُ بِيَدِه نَفْسِهِ لِبَرَكَتِهَا.
فَسَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ: كَيْفَ يَنْفِثُ؟ قَالَ: كَانَ يَنْفِثُ عَلَى يَدَيْهِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الرُّقَى) بِضَمِّ الرَّاءِ وَبِالْقَافِ مَقْصُورٌ: جَمْعُ رُقْيَةٍ بِسُكُونِ الْقَافِ، يُقَالُ: رَقَى بِالْفَتْحِ فِي الْمَاضِي يَرْقِي بِالْكَسْرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَرَقَيْتُ فُلَانًا بِكَسْرِ الْقَافِ أَرْقِيهِ، وَاسْتَرْقَى طَلَبَ الرُّقْيَةَ، وَالْجَمْعُ بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَهُوَ بِمَعْنَى التَّعْوِيذِ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ.
قَوْلُهُ: (بِالْقُرْآنِ وَالْمُعَوِّذَاتِ) هُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُعَوِّذَاتِ سُورَةُ الْفَلَقِ وَالنَّاسِ وَالْإِخْلَاصِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ التَّفْسِيرِ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ التَّغْلِيبِ. أَوِ الْمُرَادُ الْفَلَقُ وَالنَّاسُ وَكُلُّ مَا وَرَدَ مِنَ التَّعْوِيذِ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ﴾، ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، فَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَكْرَهُ عَشْرَ خِصَالٍ … فَذَكَرَ فِيهَا الرُّقَى إِلَّا بِالْمُعَوِّذَاتِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَرْمَلَةَ قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا يَصِحُّ حَدِيثُهُ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَا يُحْتَجُّ بِهَذَا الْخَبَرِ لِجَهَالَةِ رَاوِيهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَهُوَ مَنْسُوخٌ بِالْإِذْنِ فِي الرُّقْيَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَأَشَارَ الْمُهَلَّبُ إِلَى الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ فِي الْفَاتِحَةِ مَعْنَى الِاسْتِعَاذَةِ وَهُوَ الِاسْتِعَانَةُ، فَعَلَى هَذَا يَخْتَصُّ الْجَوَازُ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَتَعَوَّذُ مِنَ الْجَانِّ وَعَيْنِ الْإِنْسَانِ حَتَّى نَزَلَتِ الْمُعَوِّذَاتُ، فَأَخَذَ بِهَا وَتَرَكَ مَا سِوَاهَا.
وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ التَّعَوُّذِ بِغَيْرِ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى الْأَوْلَوِيَّةِ، وَلَا سِيَّمَا مَعَ ثُبُوتِ التَّعَوُّذِ بِغَيْرِهِمَا، وَإِنَّمَا اجْتَزَأَ بِهِمَا لِمَا اشْتَمَلَتَا عَلَيْهِ مِنْ جَوَامِعِ الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ الرُّقَى عِنْدَ اجْتِمَاعِ ثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَنْ يَكُونَ بِكَلَامِ اللَّهِ - تَعَالَى - أَوْ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَبِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ أَوْ بِمَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَأَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ الرُّقْيَةَ لَا تُؤَثِّرُ بِذَاتِهَا بَلْ بِذَاتِ اللَّهِ - تَعَالَى -. وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهَا شَرْطًا، وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ اعْتِبَارِ الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا نَرْقِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَرَى فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ: اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ، لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ، وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الرُّقَى، فَجَاءَ آلُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ كَانَتْ عِنْدَنَا رُقْيَةٌ نَرْقِي بِهَا مِنَ الْعَقْرَبِ، قَالَ: فَعَرَضُوا عَلَيْهِ فَقَالَ: مَا أَرَى بَأْسًا، مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ. وَقَدْ تَمَسَّكَ قَوْمٌ بِهَذَا الْعُمُومِ فَأَجَازُوا كُلَّ رُقْيَةٍ جُرِّبَتْ مَنْفَعَتُهَا وَلَوْ لَمْ يُعْقَلْ مَعْنَاهَا، لَكِنْ دَلَّ حَدِيثُ عَوْفٍ أَنَّهُ مَهْمَا كَانَ مِنَ الرُّقَى يُؤَدِّي إِلَى الشِّرْكِ يُمْنَعُ، وَمَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَى الشِّرْكِ فَيَمْتَنِعُ احْتِيَاطًا، وَالشَّرْطُ الْآخِرُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute