مَفْهُومُ هَذَا الْحَدِيثِ كَمَا اقْتَضَى مَنْطُوقُهُ أَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ يَحْصُلُ لَهُ أَجْرُ الشَّهِيدِ وَإِنْ لَمْ يَمُتْ بِالطَّاعُونِ وَيَدْخُلُ تَحْتَهُ ثَلَاثُ صُوَرٍ: أَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ فَوَقَعَ بِهِ الطَّاعُونُ فَمَاتَ بِهِ، أَوْ وَقَعَ بِهِ وَلَمْ يَمُتْ بِهِ، أَوْ لَمْ يَقَعْ بِهِ أَصْلًا وَمَاتَ بِغَيْرِهِ عَاجِلًا أَوِ آجِلًا.
قَوْلُهُ: (مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ) لَعَلَّ السِّرَّ فِي التَّعْبِيرِ بِالْمِثْلِيَّةِ مَعَ ثُبُوتِ التَّصْرِيحِ بِأَنَّ مَنْ مَاتَ بِالطَّاعُونِ كَانَ شَهِيدًا أَنَّ مَنْ لَمْ يَمُتْ مِنْ هَؤُلَاءِ بِالطَّاعُونِ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ وَإِنْ لَمْ تَحْصُلْ لَهُ دَرَجَةُ الشَّهَادَةِ بِعَيْنِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِكَوْنِهِ شَهِيدًا أَعْلَى دَرَجَةً مِمَّنْ وُعِدَ بِأَنَّهُ يُعْطَى مِثْلَ أَجْرِ الشَّهِيدِ، وَيَكُونُ كَمَنْ خَرَجَ عَلَى نِيَّةِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَمَاتَ بِسَبَبٍ غَيْرِ الْقَتْلِ، وَأَمَّا مَا اقْتَضَاهُ مَفْهُومُ حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَوَقَعَ بِهِ الطَّاعُونُ ثُمَّ لَمْ يَمُتْ مِنْهُ أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابُ الشَّهِيدِ فَيَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ أَنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ أَخْبَرَهُ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِنَّ أَكْثَرَ شُهَدَاءِ أُمَّتِي لَأَصْحَابُ الْفُرُشِ، وَرُبَّ قَتِيلٍ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِنِيَّتِهِ.
وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ أَنَّهُ لِابْنِ مَسْعُودٍ؛ فَإِنَّ أَحْمَدَ أَخْرَجَهُ فِي مُسْنَدِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَرِجَالُ سَنَدِهِ مُوَثَّقُونَ، وَاسْتُنْبِطَ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ ثُمَّ وَقَعَ بِهِ الطَّاعُونُ فَمَاتَ بِهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ تَعَدُّدِ الثَّوَابِ بِتَعَدُّدِ الْأَسْبَابِ كَمَنْ يَمُوتُ غَرِيبًا بِالطَّاعُونِ، أَوْ نُفَسَاءَ مَعَ الصَّبْرِ وَالِاحْتِسَابُ، وَالتَّحْقِيقُ فِيمَا اقْتَضَاهُ حَدِيثُ الْبَابِ أَنَّهُ يَكُونُ شَهِيدًا بِوُقُوعِ الطَّاعُونِ بِهِ وَيُضَافُ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ لِصَبْرِهِ وَثَبَاتِهِ، فَإِنَّ دَرَجَةَ الشَّهَادَةِ شَيْءٌ وَأَجْرَ الشَّهَادَةِ شَيْءٌ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ وَقَالَ: هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي قَوْلِهِ: وَالْمَطْعُونُ شَهِيدٌ، وَفِي قَوْلِهِ فِي هَذَا: فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: بَلْ دَرَجَاتُ الشُّهَدَاءِ مُتَفَاوِتَةٌ، فَأَرْفَعُهَا مَنِ اتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَمَاتَ بِالطَّاعُونِ، وَدُونَهُ فِي الْمَرْتَبَةِ مَنِ اتَّصَفَ بِهَا وَطُعِنَ وَلَمْ يَمُتْ بِهِ، وَدُونَهُ مَنِ اتَّصَفَ وَلَمْ يُطْعَنْ وَلَمْ يَمُتْ بِهِ. وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ أَيْضًا أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ لَا يَكُونُ شَهِيدًا وَلَوْ وَقَعَ الطَّاعُونُ وَمَاتَ بِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَمُوتَ بِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ يَنْشَأُ عَنْ شُؤْمِ الِاعْتِرَاضِ الَّذِي يَنْشَأُ عَنْهُ التَّضَجُّرُ وَالتَّسَخُّطُ لِقَدَرِ اللَّهِ وَكَرَاهَةُ لِقَاءِ اللَّهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَفُوتُ مَعَهَا الْخِصَالُ الْمَشْرُوطَةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ اسْتِوَاءُ شَهِيدِ الطَّاعُونِ وَشَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ، فَأَخْرَجَ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ رَفَعَهُ: يَأْتِي الشُّهَدَاءُ وَالْمُتَوَفَّوْنَ بِالطَّاعُونِ، فَيَقُولُ أَصْحَابُ الطَّاعُونِ: نَحْنُ شُهَدَاءُ، فَيُقَالُ: انْظُرُوا فَإِنْ كَانَ جِرَاحُهُمْ كَجِرَاحِ الشُّهَدَاءِ تَسِيلُ دَمًا وَرِيحُهَا كَرِيحِ الْمِسْكِ فَهُمْ شُهَدَاءُ، فَيَجِدُونَهُمْ كَذَلِكَ. وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ أَيْضًا بِلَفْظِ: يَخْتَصِمُ الشُّهَدَاءُ وَالْمُتَوَفَّوْنَ عَلَى فُرُشِهِمُ إِلَى رَبِّنَا ﷿ فِي الَّذِينَ مَاتُوا بِالطَّاعُونِ، فَيَقُولُ الشُّهَدَاءُ: إِخْوَانُنَا قُتِلُوا كَمَا قُتِلْنَا، وَيَقُولُ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى فُرُشِهِمْ إِخْوَانُنَا مَاتُوا عَلَى فُرُشِهِمْ كَمَا مُتْنَا، فَيَقُولُ اللَّهُ ﷿: انْظُرُوا إِلَى جِرَاحِهِمْ، فَإِنِ اشْبَهَتْ جِرَاحَ الْمَقْتُولِينَ فَإِنَّهُمْ مِنْهُمْ، فَإِذَا جِرَاحُهُمْ أَشْبَهَتْ جِرَاحَهُمْ. زَادَ الْكَلَابَاذِيُّ فِي مَعَانِي الْأَخْبَارِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فِي آخِرِهِ فَيَلْحَقُونَ بِهِمْ.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ النَّضْرُ، عَنْ دَاوُدَ) النَّضْرُ هُوَ ابْنُ شُمَيْلٍ، وَدَاوُدُ هُوَ ابْنُ أَبِي الْفُرَاتِ، وَقَدْ أَخْرَجَ طَرِيقَ النَّضْرِ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْهُ، وَتَقَدَّمَ مَوْصُولًا أَيْضًا فِي ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ عَفَّانَ، وَعَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ، وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِي، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُؤَدِّبِ كُلِّهِمْ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي الْفُرَاتِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: تَابَعَهُ النَّضْرُ إِزَالَةَ تَوَهُّمِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute