أَيِ: الْفِرَارُ مِنَ الْفِتْنَةِ مَنْشَؤُهُ الدِّينُ فَلَا يَتَّجِهُ النَّظَرُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا فِي كِتَابِ الْفِتَنِ، وَهُوَ أَلْيَقُ الْمَوَاضِعِ بِهِ، وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ يُسْتَوْفَى هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
١٣ - بَاب قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ وَأَنَّ الْمَعْرِفَةَ فِعْلُ الْقَلْبِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾
٢٠ - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا أَمَرَهُمْ أَمَرَهُمْ مِنْ الْأَعْمَالِ بِمَا يُطِيقُونَ، قَالُوا: إِنَّا لَسْنَا كَهَيْئَتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَيَغْضَبُ حَتَّى يُعْرَفَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا.
قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ) هُوَ مُضَافٌ بِلَا تَرَدُّدٍ.
قَوْلُهُ: (أَنَا أَعْلَمُكُمْ) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، وَهُوَ لَفْظُ الْحَدِيثِ الَّذِي أَوْرَدَهُ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِ. وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ أَعْرَفُكُمْ وَكَأَنَّهُ مَذْكُورٌ بِالْمَعْنَى حَمْلًا عَلَى تَرَادُفِهِمَا هُنَا، وَهُوَ ظَاهِرٌ هُنَا وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْمُصَنِّفِ.
قَوْلُهُ: (وَأَنَّ الْمَعْرِفَةَ) بِفَتْحِ أَنَّ وَالتَّقْدِيرُ: بَابُ بَيَانِ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ. وَوَرَدَ بِكَسْرِهَا وَتَوْجِيهِهِ ظَاهِرٌ.
وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: هُوَ خِلَافُ الرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ.
قَوْلُهُ: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى) مُرَادُهُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ بِالْقَوْلِ وَحْدَهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِانْضِمَامِ الِاعْتِقَادِ إِلَيْهِ، وَالِاعْتِقَادُ فِعْلُ الْقَلْبِ. وَقَوْلُهُ: ﴿بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ أَيْ: بِمَا اسْتَقَرَّ فِيهَا، وَالْآيَةُ وَإِنْ وَرَدَتْ فِي الْأَيْمَانِ بِالْفَتْحِ فَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا فِي الْإِيمَانِ بِالْكَسْرِ وَاضِحٌ لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْمَعْنَى، إِذْ مَدَارُ الْحَقِيقَةِ فِيهِمَا عَلَى عَمَلِ الْقَلْبِ.
وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمَّحَ بِتَفْسِيرِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، فَإِنَّهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ قَالَ: هُوَ كَقَوْلِ الرَّجُلِ إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَأَنَا كَافِرٌ، قَالَ: لَا يُؤَاخِذُهُ اللَّهُ بِذَلِكَ حَتَّى يَعْقِدَ بِهِ قَلْبُهُ، فَظَهَرَتِ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ، وَظَهَرَ وَجْهُ دُخُولِهِمَا فِي مَبَاحِثِ الْإِيمَانِ، فَإِنَّ فِيهِ دَلِيلًا عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْكَرَامِيَّةِ: إِنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ فَقَطْ، وَدَلِيلًا عَلَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ ﷺ: أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْعِلْمَ بِاللَّهِ دَرَجَاتٌ، وَأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ، وَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ مِنْهُ فِي أَعْلَى الدَّرَجَاتِ. وَالْعِلْمُ بِاللَّهِ يَتَنَاوَلُ مَا بِصِفَاتِهِ وَمَا بِأَحْكَامِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ، فَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ حَقًّا.
(فَائِدَةٌ): قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى وُجُوبِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاخْتَلَفُوا فِي أَوَّلِ وَاجِبٍ (١) فَقِيلَ: الْمَعْرِفَةُ، وَقِيلَ النَّظَرُ، وَقَالَ الْمُقْتَرِحُ: لَا اخْتِلَافَ فِي أَنَّ أَوَّلَ وَاجِبٍ خِطَابًا وَمَقْصُودًا الْمَعْرِفَةُ، وَأَوَّلُ وَاجِبٍ اشْتِغَالًا وَأَدَاءً الْقَصْدُ إِلَى النَّظَرِ. وَفِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ نَظَرٌ كَبِيرٌ وَمُنَازَعَةٌ طَوِيلَةٌ، حَتَّى نَقَلَ جَمَاعَةٌ الْإِجْمَاعَ فِي نَقِيضِهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِإِطْبَاقِ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ عَلَى قَبُولِ الْإِسْلَامَ مِمَّنْ دَخَلَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَنْقِيبٍ، وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَذُبُّونَ عَنْ دِينِهِمْ وَيُقَاتِلُونَ عَلَيْهِ، فَرُجُوعُهُمْ عَنْهُ دَلِيلٌ عَلَى ظُهُورِ الْحَقِّ لَهُمْ. وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّ الْمَعْرِفَةَ الْمَذْكُورَةَ يُكْتَفَى فِيهَا بِأَدْنَى نَظَرٍ، بِخِلَافِ مَا قَرَّرُوهُ. وَمَعَ ذَلِكَ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ
(١) الصواب ماذكره المحققون من اهل العلم أن اول واجب هو شهادة أن لا إله إلا الله علما وعملا، وهي أول شيء دعا اليه الرسل، وسيدهم وإمامهم: نبينا محمد ﷺ أول شيء دعا إليه أن قال لقومه: قولوا لاإله إلا الله تعلموا. ولما بعث معاذا إلى اليمن قال له: فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لاإله إلا الله. ولأن التوحيد شرط لصحة جميع العبادات، كما يدل عليه قوله تعالى ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾