فَيَتْرُكُ الدُّعَاءَ، فَيَكُونُ كَالْمَانِّ بِدُعَائِهِ، أَوْ أَنَّهُ أَتَى مِنَ الدُّعَاءِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْإِجَابَةَ، فَيَصِيرُ كَالْمُبْخِلِ لِلرَّبِّ الْكَرِيمِ الَّذِي لَا تُعْجِزُهُ الْإِجَابَةُ، وَلَا يُنْقِصُهُ الْعَطَاءُ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالتِّرْمِذِيِّ: لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ، مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ، أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، وَمَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ. قِيلَ: وَمَا الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ، وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أَرَ يُسْتَجَابُ لِي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَيَدَعُ الدُّعَاءَ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: يَسْتَحْسِرُ - وَهُوَ بِمُهْمَلَاتٍ -: يَنْقَطِعُ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَدَبٌ مِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ، وَهُوَ أَنَّهُ يُلَازِمُ الطَّلَبَ، وَلَا يَيْأَسُ مِنَ الْإِجَابَةِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الِانْقِيَادِ وَالِاسْتِسْلَامِ وَإِظْهَارِ الِافْتِقَارِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَأَنَا أَشَدُّ خَشْيَةً أَنْ أُحْرَمَ الدُّعَاءَ مِنْ أَنْ أُحْرَمَ الْإِجَابَةَ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ: مَنْ فُتِحَ لَهُ مِنْكُمْ بَابُ الدُّعَاءِ، فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ الْحَدِيثُ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ لَيِّنٍ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ فَوَهَمَ، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: يُخْشَى عَلَى مَنْ خَالَفَ، وَقَالَ: قَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي أَنْ يُحْرَمَ الْإِجَابَةَ، وَمَا قَامَ مَقَامَهَا مِنَ الِادِّخَارِ وَالتَّكْفِيرِ، انْتَهَى.
وَقَدْ قَدَّمْتُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الدُّعَاءِ الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّ دَعْوَةَ الْمُؤْمِنِ لَا تُرَدُّ، وَأَنَّهَا إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ الْإِجَابَةُ، وَإِمَّا أَنْ تَدْفَعَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا، وَإِمَّا أَنْ يُدَّخَرَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ مِمَّا سَأَلَ، فَأَشَارَ الدَّاوُدِيُّ إِلَى ذَلِكَ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِقَوْلِهِ: اعْلَمْ أَنَّ دُعَاءَ الْمُؤْمِنِ لَا يُرَدُّ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْأَوْلَى لَهُ تَأْخِيرَ الْإِجَابَةِ، أَوْ يُعَوَّضُ بِمَا هُوَ أَوْلَى لَهُ، عَاجِلًا أَوْ آجِلًا، فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ لَا يَتْرُكَ الطَّلَبَ مِنْ رَبِّهِ؛ فَإِنَّهُ مُتَعَبِّدٌ بِالدُّعَاءِ، كَمَا هُوَ مُتَعَبِّدٌ بِالتَّسْلِيمِ وَالتَّفْوِيضِ، وَمِنْ جُمْلَةِ آدَابِ الدُّعَاءِ تَحَرِّي الْأَوْقَاتِ الْفَاضِلَةِ؛ كَالسُّجُودِ، وَعِنْدَ الْأَذَانِ، وَمِنْهَا تَقْدِيمُ الْوُضُوءِ، وَالصَّلَاةُ، وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ، وَرَفْعُ الْيَدَيْنِ، وَتَقْدِيمُ التَّوْبَةِ، وَالِاعْتِرَافُ بِالذَّنْبِ، وَالْإِخْلَاصُ، وَافْتِتَاحُهُ بِالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَالسُّؤَالُ بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَأَدِلَّةُ ذَلِكَ ذُكِرَتْ فِي هَذَا الْكِتَابِ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: الَّذِي يُتَصَوَّرُ فِي الْإِجَابَةِ وَعَدَمِهَا، أَرْبَعُ صُوَرٍ: الْأُولَى: عَدَمُ الْعَجَلَةِ وَعَدَمُ الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ، الثَّانِيَةُ: وُجُودُهُمَا، الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ: عَدَمُ أَحَدِهِمَا وَوُجُودُ الْآخَرِ، فَدَلَّ الْخَبَرُ عَلَى أَنَّ الْإِجَابَةَ تَخْتَصُّ بِالصُّورَةِ الْأُولَى دُونَ ثَلَاثٍ، قَالَ: وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ مُقَيَّدٌ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ.
قُلْتُ: وَقَدْ أُوِّلَ الْحَدِيثُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ قَبْلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِجَابَةِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ تَحْصِيلِ الْمَطْلُوبِ بِعَيْنِهِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ وَيَزِيدُ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
٢٣ - بَاب رَفْعِ الْأَيْدِي فِي الدُّعَاءِ
قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: دَعَا النَّبِيُّ ﷺ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: رَفَعَ النَّبِيُّ ﷺ يَدَيْهِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ
٦٣٤١ - قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَقَالَ الْأُوَيْسِيُّ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَشَرِيكٍ، سَمِعَا أَنَسًا، عَنْ النَّبِيِّ ﷺ: رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْه.
قَوْلُهُ: (بَابُ رَفْعِ الْأَيْدِي فِي الدُّعَاءِ) أَيْ: عَلَى صِفَةٍ خَاصَّةٍ وَسَقَطَ لَفْظُ بَابٍ لِأَبِي ذَرٍّ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو مُوسَى) هُوَ الْأَشْعَرِيُّ (دَعَا النَّبِيُّ ﷺ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ فِي قِصَّةِ قَتْلِ عَمِّهِ أَبِي عَامِرٍ الْأَشْعَرِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي الْمَغَازِي فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ، وَأَشَرْتُ إِلَيْهِ قَبْلُ بِثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ فِي: بَابِ قَوْلِ اللَّهِ - تَعَالَى -: ﴿وَصَلِّ عَلَيْهِمْ﴾.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: رَفَعَ النَّبِيُّ ﷺ يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute