الْمَفْسَدَةِ مِمَّا يَتَعَذَّرُ إِحْصَاؤُهُ وَالْوُقُوفُ عَلَى نِهَايَتِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْغَضَبِ الدُّنْيَوِيِّ لَا الْغَضَبِ الدِّينِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَيُعِينُ عَلَى تَرْكِ الْغَضَبِ اسْتِحْضَارُ مَا جَاءَ فِي كَظْمِ الْغَيْظِ مِنَ الْفَضْلِ، وَمَا جَاءَ فِي عَاقِبَةِ ثَمَرَةِ الْغَضَبِ مِنَ الْوَعِيدِ، وَأَنْ يَسْتَعِيذَ مِنَ الشَّيْطَانِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ، وَأَنْ يَتَوَضَّأَ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي حَدِيثِ عَطِيَّةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الطُّوفِيُّ: أَقْوَى الْأَشْيَاءِ فِي دَفْعِ الْغَضَبِ اسْتِحْضَارُ التَّوْحِيدِ الْحَقِيقِيِّ، وَهُوَ أَنْ لَا فَاعِلَ إِلَّا اللَّهُ، وَكُلُّ فَاعِلٍ غَيْرُهُ فَهُوَ آلَةٌ لَهُ، فَمَنْ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ بِمَكْرُوهٍ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ فَاسْتَحْضَرَ أَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لَمْ يُمَكِّنْ ذَلِكَ الْغَيْرَ مِنْهُ انْدَفَعَ غَضَبُهُ ; لِأَنَّهُ لَوْ غَضِبَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ كَانَ غَضَبُهُ عَلَى رَبِّهِ - جَلَّ وَعَلَا - وَهُوَ خِلَافُ الْعُبُودِيَّةِ. قُلْتُ: وَبِهَذَا يَظْهَرُ السِّرُّ فِي أَمْرِهِ ﷺ الَّذِي غَضِبَ بِأَنْ يَسْتَعِيذَ مِنَ الشَّيْطَانِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا تَوَجَّهَ إِلَى اللَّهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ بِالِاسْتِعَاذَةِ بِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ أَمْكَنَهُ اسْتِحْضَارُ مَا ذُكِرَ، وَإِذَا اسْتَمَرَّ الشَّيْطَانُ مُتَلَبِّسًا مُتَمَكِّنًا مِنَ الْوَسْوَسَةِ لَمْ يُمَكِّنْهُ مِنَ اسْتِحْضَارُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
٧٧ - بَاب الْحَيَاءِ
٦١١٧ - حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي السَّوَّارِ الْعَدَوِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ، فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ: مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ: إِنَّ مِنْ الْحَيَاءِ وَقَارًا، وَإِنَّ مِنْ الْحَيَاءِ سَكِينَةً. فَقَالَ لَهُ عِمْرَانُ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَتُحَدِّثُنِي عَنْ صَحِيفَتِكَ؟
٦١١٨ - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ﵄ مَرَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ يُعَاتِبُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ يَقُولُ إِنَّكَ لَتَسْتَحْيِي حَتَّى كَأَنَّهُ يَقُولُ قَدْ أَضَرَّ بِكَ. فَقال رسول الله ﷺ: "دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنْ الإِيمَانِ".
٦١١٩ - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ مَوْلَى أَنَسٍ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عُتْبَةَ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ يَقُولُ: "كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَشَدَّ حَيَاءً مِنْ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا".
قَوْلُهُ: (بَابُ الْحَيَاءِ) بِالْمَدِّ تَقَدَّمَ تَعْرِيفُهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْإِيمَانِ، وَوَقَعَ لِابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ أَنَّ أَصْلَ الْحَيَاءِ الِامْتِنَاعُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الِانْقِبَاضِ، وَالْحَقُّ أَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ لَوَازِمِ الْحَيَاءِ وَلَازِمُ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ أَصْلَهُ، وَلَمَّا كَانَ الِامْتِنَاعُ لَازِمَ الْحَيَاءِ كَانَ فِي التَّحْرِيضِ عَلَى مُلَازَمَةِ الْحَيَاءِ حَضٌّ عَلَى الِامْتِنَاعِ عَنْ فِعْلِ مَا يُعَابُ، وَالْحَيَاء بِالْقَصْرِ الْمَطَرُ. وذكر فيه ثلاثة أحاديث:
الأول: قَوْلُهُ: (عَنْ قَتَادَةَ) كَذَا قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ شُعْبَةَ، وَخَالَفَهُمْ شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ فَقَالَ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ رَبَاحٍ بَدَلَ قَتَادَةَ، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَنْدَهْ، وَوَقَعَ نَظِيرُ هَذِهِ الْقِصَّةِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَيْضًا لِلْعَلَاءِ بن زِيَادٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي كِتَابِ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي السَّوَّارِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ رَاءٌ اسْمُهُ حُرَيْثٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ حُجَيْرُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ عَنْدَ مُسْلِمٍ سَمِعْتُ أَبَا السَّوَّارِ.
قَوْلُهُ: (الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ) فِي رِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي السَّوَّارِ عِنْدَ أَحْمَدَ. وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَبِي قَتَادَةَ الْعَدَوِيِّ، عَنْ عِمْرَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute