يَقُولُ لَا تَغْضَبْ، وَفِي رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: لَا تَغْضَبْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَفِيهَا بَيَانُ عَدَدِ الْمِرَارِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَنَسٍ أَنَّهُ ﷺ كَانَ يُعِيدُ الْكَلِمَةَ ثَلَاثًا لِتُفْهَمَ عَنْهُ، وَأَنَّهُ كَانَ لَا يُرَاجَعُ بَعْدَ ثَلَاثٍ، وَزَادَ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي رِوَايَةٍ عَنْ رَجُلٍ لَمْ يُسَمَّ قَالَ: تَفَكَّرْتُ فِيمَا قَالَ فَإِذَا الْغَضَبُ يَجْمَعُ الشَّرَّ كُلَّهُ قَالَ الْخَطَّابِيُّ مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا تَغْضَبِ اجْتَنِبْ أَسْبَابَ الْغَضَبِ وَلَا تَتَعَرَّضْ لِمَا يَجْلِبُهُ. وَأَمَّا نَفْسُ الْغَضَبِ فَلَا يَتَأَتَّى النَّهْيُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ لَا يَزُولُ مِنَ الْجِبِلَّةِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: مَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ الطَّبْعِ الْحَيَوَانِيِّ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ، فَلَا يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَكْلِيفِ الْمُحَالِ، وَمَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ مَا يُكْتَسَبُ بِالرِّيَاضَةِ فَهُوَ الْمُرَادُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تَغْضَبْ لِأَنَّ أَعْظَمَ مَا يَنْشَأُ عَنه الْغَضَبِ الْكِبْرُ لِكَوْنِهِ يَقَعُ عِنْدَ مُخَالَفَةِ أَمْرٍ يُرِيدُهُ فَيَحْمِلُهُ الْكِبْرُ عَلَى الْغَضَبِ، فَالَّذِي يَتَوَاضَعُ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ عِزَّةُ النَّفْسِ يَسْلَمُ مِنْ شَرِّ الْغَضَبِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تَفْعَلْ مَا يَأْمُرُكَ بِهِ الْغَضَبُ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ أنَّ مُجَاهَدَةَ النَّفْسِ أَشَدُّ مِنْ مُجَاهَدَةِ الْعَدُوِّ ; لِأَنَّهُ ﷺ جَعَلَ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ أَعْظَمَ النَّاسِ قُوَّةً.
وَقَالَ غَيْرُهُ: لَعَلَّ السَّائِلَ كَانَ غَضُوبًا، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَأْمُرُ كُلَّ أَحَدٍ بِمَا هُوَ أَوْلَى بِهِ، فَلِهَذَا اقْتَصَرَ فِي وَصِيَّتِهِ لَهُ عَلَى تَرْكِ الْغَضَبِ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: جَمَعَ ﷺ فِي قَوْلِهِ: لَا تَغْضَبْ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِأَنَّ الْغَضَبَ يَئُولُ إِلَى التَّقَاطُعِ وَمَنْعِ الرِّفْقِ، وَرُبَّمَا آلَ إِلَى أَنْ يُؤْذِيَ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِ فَيُنْتَقَصُ ذَلِكَ مِنْ الدِّينِ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: لَعَلَّهُ لَمَّا رَأَى أَنَّ جَمِيعَ الْمَفَاسِدِ الَّتِي تَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ إِنَّمَا هِيَ مِنْ شَهْوَتِهِ وَمِنْ غَضَبِهِ، وَكَانَتْ شَهْوَةُ السَّائِلِ مَكْسُورَةٌ فَلَمَّا سَأَلَ عَمَّا يَحْتَرِزُ بِهِ عَنِ الْقَبَائِحِ نَهَاهُ عَنِ الْغَضَبِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ ضَرَرًا مِنْ غَيْرِهِ، وَأَنَّهُ إِذَا مَلَكَ نَفْسَهُ عِنْدَ حُصُولِهِ كَانَ قَدْ قَهَرَ أَقْوَى أَعْدَائِهِ انْتَهَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ بِالْأَعْلَى عَلَى الْأَدْنَى، لِأَنَّ أَعْدَى عَدُوٍّ لِلشَّخْصِ شَيْطَانُهُ وَنَفْسُهُ، وَالْغَضَبُ إِنَّمَا يَنْشَأُ عَنْهُمَا، فَمَنْ جَاهَدَهُمَا حَتَّى يَغْلِبَهُمَا مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ الْمُعَالَجَةِ كَانَ لِقَهْرِ نَفْسِهِ عَنِ الشَّهْوَةِ أَيْضًا أَقْوَى. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ: أَرَادَ لَا تَعْمَلْ بَعْدَ الْغَضَبِ شَيْئًا مِمَّا نَهَيْتُ عَنْهُ، لَا أَنَّهُ نَهَاهُ عَنْ شَيْءٍ جُبِلَ عَلَيْهِ وَلَا حِيلَةَ فِي دَفْعِهِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: خَلَقَ اللَّهُ الْغَضَبَ مِنَ النَّارِ وَجَعَلَهُ غَرِيزَةً فِي الْإِنْسَانِ، فَمَهْمَا قَصَدَ أَوْ نُوزِعَ فِي غَرَضٍ مَا اشْتَعَلَتْ نَارُ الْغَضَبِ، وَثَارَتْ حَتَّى يَحْمَرَّ الْوَجْهُ وَالْعَيْنَانِ مِنَ الدَّمِ ; لِأَنَّ الْبَشَرَةَ تَحْكِي لَوْنَ مَا وَرَاءَهَا، وَهَذَا إِذَا غَضِبَ عَلَى مَنْ دُونَهُ وَاسْتَشْعَرَ الْقُدْرَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ فَوْقَهُ تَوَلَّدَ مِنْهُ انْقِبَاضُ الدَّمِ مِنْ ظَاهِرِ الْجِلْدِ إِلَى جَوْفِ الْقَلْبِ فَيَصْفَرُّ اللَّوْنُ حُزْنًا، وَإِنْ كَانَ عَلَى النَّظِيرِ تَرَدَّدَ الدَّمُ بَيْنَ انْقِبَاضٍ وَانْبِسَاطٍ فَيَحْمَرُّ وَيَصْفَرُّ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الْغَضَبِ تَغَيُّرُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، كَتَغَيُّرِ اللَّوْنِ وَالرِّعْدَةِ فِي الْأَطْرَافِ وَخُرُوجِ الْأَفْعَالِ عَنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ وَاسْتِحَالَةِ الْخِلْقَةِ حَتَّى لَوْ رَأَى الْغَضْبَانُ نَفْسَهُ فِي حَالِ غَضَبِهِ لَكَانَ غَضَبُهُ حَيَاءً مِنْ قُبْحِ صُورَتِهِ وَاسْتِحَالَةِ خِلْقَتِهِ، هَذَا كُلُّهُ فِي الظَّاهِرِ، وَأَمَّا الْبَاطِنُ فَقُبْحُهُ أَشَدُّ مِنَ الظَّاهِرِ ; لِأَنَّهُ يُوَلِّدُ الْحِقْدَ فِي الْقَلْبِ وَالْحَسَدَ وَإِضْمَارَ السُّوءِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ، بَلْ أَوْلَى شَيْءٍ يَقْبُحُ مِنْهُ بَاطِنُهُ، وَتَغَيُّرُ ظَاهِرِهِ ثَمَرَةُ تَغَيُّرِ بَاطِنِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ أَثَرُهُ فِي الْجَسَدِ، وَأَمَّا أَثَرُهُ فِي اللِّسَانِ فَانْطِلَاقُهُ بِالشَّتْمِ وَالْفُحْشِ الَّذِي يَسْتَحِي مِنْهُ الْعَاقِلُ وَيَنْدَمُ قَائِلُهُ عِنْدَ سُكُونِ الْغَضَبِ وَيَظْهَرُ أَثَرُ الْغَضَبِ أَيْضًا فِي الْفِعْلِ بِالضَّرْبِ أَوِ الْقَتْلِ، وَإِنْ فَاتَ ذَلِكَ بِهَرَبِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ فَيُمَزِّقُ ثَوْبَ نفسه وَيَلْطِمُ خَدَّهُ، وَرُبَّمَا سَقَطَ صَرِيعًا، وَرُبَّمَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا كَسَرَ الْآنِيَةَ وَضَرَبَ مَنْ لَيْسَ لَهُ فِي ذَلِكَ جَرِيمَةٌ.
وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ الْمَفَاسِدَ عَرَفَ مِقْدَارَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْكَلِمَةُ اللَّطِيفَةُ مِنْ قَوْلِهِ ﷺ: لَا تَغْضَبْ مِنَ الْحِكْمَةِ وَاسْتِجْلَابِ الْمَصْلَحَةِ فِي دَرْءِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute