لِأَنَّ الْخَطَّابِيَّ قَالَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ مُمَسَّكَةٌ أَيْ مَأْخُوذَةٌ بِالْيَدِ، يُقَالُ أَمْسَكْتُهُ وَمَسَّكْتُهُ. لَكِنْ يَبْقَى الْكَلَامُ ظَاهِرَ الرِّكَّةِ ; لِأَنَّهُ يَصِيرُ هَكَذَا: خُذِي قِطْعَةً مَأْخُوذَةً.
وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: صَنِيعُ الْبُخَارِيِّ يُشْعِرُ بِأَنَّ الرِّوَايَةَ عِنْدَهُ بِفَتْحِ الْمِيمِ حَيْثُ جَعَلَ لِلْأَمْرِ بِالطِّيبِ بَابًا مُسْتَقِلًّا. انْتَهَى. وَاقْتِصَارُ الْبُخَارِيِّ فِي التَّرْجَمَةِ عَلَى بَعْضِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ، وَيُقَوِّي رِوَايَةَ الْكَسْرِ وَأَنَّ الْمُرَادَ التَّطَيُّبُ مَا فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ حَيْثُ وَقَعَ عِنْدَهُ مِنْ ذَرِيرَةَ، وَمَا اسْتَبْعَدَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ مِنِ امْتِهَانِ الْمِسْكِ لَيْسَ بِبَعِيدٍ لِمَا عُرِفَ مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الْحِجَازِ مِنْ كَثْرَةِ اسْتِعْمَالِ الطِّيبِ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَأْمُورُ بِهِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْمَقْصُودُ بِاسْتِعْمَالِ الطِّيبِ دَفْعُ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ لِكَوْنِهِ أَسْرَعَ إِلَى الْحَبَلِ. حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ قَالَ: فَعَلَى الْأَوَّلِ إِنْ فَقَدَتِ الْمِسْكَ اسْتَعْمَلَتْ مَا يَخْلُفُهُ فِي طِيبِ الرِّيحِ، وَعَلَى الثَّانِي مَا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي إِسْرَاعِ الْعُلُوقِ. وَضَعَّفَ النَّوَوِيُّ الثَّانِيَ وَقَالَ: لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَاخْتَصَّتْ بِهِ الْمُزَوَّجَةُ. قَالَ: وَإِطْلَاقُ الْأَحَادِيثِ يَرُدُّهُ، وَالصَّوَابُ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ لِكُلِّ مُغْتَسِلَةٍ مِنْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ، وَيُكْرَهُ تَرْكُهُ لِلْقَادِرَةِ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ مِسْكًا فَطِيبًا، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَمُزِيلًا كَالطِّينِ وَإِلَّا فَالْمَاءُ كَافٍ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ أَنَّ الْحَادَّةَ تَتَبَخَّرُ بِالْقِسْطِ فَيَجْزِيهَا.
قَوْلُهُ: (فَتَطَهَّرِي) قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَهَا تَوَضَّئِي أَيْ تَنَظَّفِي.
قَوْلُهُ: (سُبْحَانَ اللَّهِ) زَادَ فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ اسْتَحْيَى وَأَعْرَضَ، وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ فَلَمَّا رَأَيْتُهُ اسْتَحْيَى عَلَّمْتُهَا وَزَادَ الدَّارِمِيُّ وَهُوَ يَسْمَعُ فَلَا يُنْكِرُ.
قَوْلُهُ: (أَثَرُ الدَّمِ) قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُرَادُ بِهِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ الْفَرْجُ، وَقَالَ الْمَحَامِلِيُّ: يُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تُطَيِّبَ كُلَّ مَوْضِعٍ أَصَابَهُ الدَّمُ مِنْ بَدَنِهَا، قَالَ: وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ حُجَّةٌ لَهُ. قُلْتُ: وَيُصَرِّحُ بِهِ رِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ تَتَبَّعِي بِهَا مَوَاضِعَ الدَّمِ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ التَّسْبِيحُ عِنْدَ التَّعَجُّبِ، وَمَعْنَاهُ هُنَا كَيْفَ يَخْفَى هَذَا الظَّاهِرُ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ فِي فَهْمِهِ إِلَى فِكْرٍ؟ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الْكِنَايَاتِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَوْرَاتِ. وَفِيهِ سُؤَالُ الْمَرْأَةِ الْعَالِمَ عَنْ أَحْوَالِهَا الَّتِي يُحْتَشَمُ مِنْهَا، وَلِهَذَا كَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ فِي نِسَاءِ الْأَنْصَارِ لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ. كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ مُعَلَّقًا. وَفِيهِ الِاكْتِفَاءُ بِالتَّعْرِيضِ وَالْإِشَارَةِ فِي الْأُمُورِ الْمُسْتَهْجَنَةِ، وَتَكْرِيرُ الْجَوَابِ لِإِفْهَامِ السَّائِلِ، وَإِنَّمَا كَرَّرَهُ مَعَ كَوْنِهَا لَمْ تَفْهَمْهُ أَوَّلًا ; لِأَنَّ الْجَوَابَ بِهِ يُؤْخَذُ مِنْ إِعْرَاضِهِ بِوَجْهِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَوَضَّئِي أَيْ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يَسْتَحْيى مِنْ مُوَاجَهَةِ الْمَرْأَةِ بِالتَّصْرِيحِ بِهِ، فَاكْتَفَى بِلِسَانِ الْحَالِ عَنْ لِسَانِ الْمَقَالِ، وَفَهِمَتْ عَائِشَةُ ﵂ ذَلِكَ عَنْهُ فَتَوَلَّتْ تَعْلِيمَهَا. وَبَوَّبَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي الِاعْتِصَامِ الْأَحْكَامُ الَّتِي تُعْرَفُ بِالدَّلَائِلِ. وَفِيهِ تَفْسِيرُ كَلَامِ الْعَالِمِ بِحَضْرَتِهِ لِمَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ إِذَا عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ يُعْجِبُهُ. وَفِيهِ الْأَخْذُ عَنِ الْمَفْضُولِ بِحَضْرَةِ الْفَاضِلِ. وَفِيهِ صِحَّةُ الْعَرْضِ عَلَى الْمُحَدِّثِ إِذَا أَقَرَّهُ وَلَوْ لَمْ يَقُلْ عَقِبَهُ نَعَمْ، وَأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ التَّحَمُّلِ فَهْمُ السَّامِعِ لِجَمِيعِ مَا يَسْمَعُهُ.
وَفِيهِ الرِّفْقُ بِالْمُتَعَلِّمِ وَإِقَامَةُ الْعُذْرِ لِمَنْ لَا يَفْهَمُ. وَفِيهِ أَنَّ الْمَرْءَ مَطْلُوبٌ بِسَتْرِ عُيُوبِهِ وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا جُبِلَ عَلَيْهَا مِنْ جِهَةِ أَمْرِ الْمَرْأَةِ بِالتَّطَيُّبِ لِإِزَالَةِ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ. وَفِيهِ حُسْنُ خُلُقِهِ ﷺ وَعَظِيمُ حِلْمِهِ وَحَيَائِهِ. زَادَهُ اللَّهُ شَرَفًا.
١٤ - بَاب غَسْلِ الْمَحِيضِ
٣١٥ - حَدَّثَنَا مُسْلِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ ﷺ: كَيْفَ أَغْتَسِلُ مِنْ الْمَحِيضِ؟ قَالَ: خُذِي فِرْصَةً مُمَسَّكَةً فَتَوَضَّئِي ثَلَاثًا، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ