فَلِذَلِكَ قَالَ ﷺ: لَا نَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ مَنْعُ تَوْلِيَةِ مَنْ يَحْرِصُ عَلَى الْوِلَايَةِ إِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّحْرِيمِ أَوِ الْكَرَاهَةِ، وَإِلَى التَّحْرِيمِ جَنَحَ الْقُرْطُبِيُّ، وَلَكِنْ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ.
٢ - بَاب رَعْيِ الْغَنَمِ عَلَى قَرَارِيطَ
٢٢٦٢ - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁، عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ رَعْيِ الْغَنَمِ عَلَى قَرَارِيطَ) عَلَى بِمَعْنَى الْبَاءِ وَهِيَ لِلسَّبَبِيَّةِ أَوِ الْمُعَارِضَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا هُنَا لِلظَّرْفِيَّةِ كَمَا سَنُبَيِّنُ.
قَوْلُهُ: (عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ جَدِّهِ) وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ الْأُمَوِيُّ.
قَوْلُهُ: (إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: إِلَّا رَاعَى الْغَنَمَ.
قَوْلُهُ: (عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى: كُنْتُ أَرْعَاهَا لِأَهْلِ مَكَّةَ بِالْقَرَارِيطِ وَكَذَا رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، عَنِ الْمَنِيعِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، قَالَ سُوَيْدٌ أَحَدُ رُوَاتِهِ: يَعْنِي: كُلَّ شَاةٍ بِقِيرَاطٍ، يَعْنِي: الْقِيرَاطَ الَّذِي هُوَ جُزْءٌ مِنَ الدِّينَارِ أَوِ الدِّرْهَمِ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: قَرَارِيطُ اسْمُ مَوْضِعٍ بِمَكَّةَ وَلَمْ يُرِدِ الْقَرَارِيطَ مِنَ الْفِضَّةِ، وَصَوَّبَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ تَبَعًا لِابْنِ نَاصِرٍ وَخَطَّأَ سُوَيْدًا فِي تَفْسِيرِهِ، لَكِنْ رَجَّحَ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَا يَعْرِفُونَ بِهَا مَكَانًا يُقَالُ لَهُ: قَرَارِيطُ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ نَصْرِ بْنِ حَزْنٍ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الزَّايِ بَعْدَهَا نُونٌ قَالَ: افْتَخَرَ أَهْلُ الْإِبِلِ وَأَهْلُ الْغَنَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: بُعِثَ مُوسَى وَهُوَ رَاعِي غَنَمٍ، وَبُعِثَ دَاوُدُ وَهُوَ رَاعِي غَنَمٍ، وَبُعِثْتُ وَأَنَا أَرْعَى غَنَمَ أَهْلِي بِجِيَادٍ فَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ فِيهِ رَدًّا لِتَأْوِيلِ سُوَيْدِ بْنِ سَعِيدٍ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَرْعَى بِالْأُجْرَةِ لِأَهْلِهِ، فَيَتَعَيَّنُ أَنَّهُ أَرَادَ الْمَكَانَ فَعَبَّرَ تَارَةً بِجِيَادٍ وَتَارَةً بِقَرَارِيطَ. وَلَيْسَ الرَّدُّ بِجَيِّدٍ إِذْ لَا مَانِعَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ أَنْ يَرْعَى لِأَهْلِهِ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ وَلِغَيْرِهِمْ بِأُجْرَةٍ، أَوِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَهْلِي أَهْلُ مَكَّةَ فَيَتَّحِدُ الْخَبَرَانِ وَيَكُونُ فِي أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ بَيَّنَ الْأُجْرَةَ وَفِي الْآخَرِ بَيَّنَ الْمَكَانَ فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ تَكُنِ الْعَرَبُ تَعْرِفُ الْقِيرَاطَ الَّذِي هُوَ مِنَ النَّقْدِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: يَسْتَفْتِحُونَ أَرْضًا يُذْكَرُ فِيهَا الْقِيرَاطُ، وَلَيْسَ الِاسْتِدْلَالُ لِمَا ذُكِرَ مِنْ نَفْيِ الْمَعْرِفَةِ بِوَاضِحٍ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْحِكْمَةُ فِي إِلْهَامِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ رَعْيِ الْغَنَمِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ أَنْ يَحْصُلَ لَهُمُ التَّمَرُّنُ بِرَعْيِهَا عَلَى مَا يُكَلَّفُونَهُ مِنَ الْقِيَامِ بِأَمْرِ أُمَّتِهِمْ، وَلِأَنَّ فِي مُخَالَطَتِهَا مَا يُحَصِّلُ لَهُمُ الْحِلْمَ وَالشَّفَقَةَ؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا صَبَرُوا عَلَى رَعْيِهَا وَجَمْعِهَا بَعْدَ تَفَرُّقِهَا فِي الْمَرْعَى وَنَقْلِهَا مِنْ مَسْرَحٍ إِلَى مَسْرَحٍ وَدَفْعِ عَدُوِّهَا مِنْ سَبُعٍ وَغَيْرِهِ كَالسَّارِقِ، وَعَلِمُوا اخْتِلَافَ طِبَاعَهَا وَشِدَّةَ تَفَرُّقِهَا مَعَ ضَعْفِهَا وَاحْتِيَاجِهَا إِلَى الْمُعَاهَدَةِ أَلِفُوا مِنْ ذَلِكَ الصَّبْرَ عَلَى الْأُمَّةِ وَعَرَفُوا اخْتِلَافَ طِبَاعَهَا وَتَفَاوُتَ عُقُولِهَا فَجَبَرُوا كَسْرَهَا وَرَفَقُوا بِضَعِيفِهَا وَأَحْسَنُوا التَّعَاهُدَ لَهَا فَيَكُونُ تَحَمُّلُهُمْ لِمَشَقَّةِ ذَلِكَ أَسْهَلَ مِمَّا لَوْ كُلِّفُوا الْقِيَامَ بِذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ لِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنَ التَّدْرِيجِ عَلَى ذَلِكَ بِرَعْيِ الْغَنَمِ، وَخُصَّتِ الْغَنَمُ بِذَلِكَ لِكَوْنِهَا أَضْعَفَ مِنْ غَيْرِهَا، وَلِأَنَّ تَفَرُّقَهَا أَكْثَرُ مِنْ تَفَرُّقِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ لِإِمْكَانِ ضَبْطِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ بِالرَّبْطِ دُونَهَا فِي الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ، وَمَعَ أَكْثَرِيَّةِ تَفَرُّقِهَا فَهِيَ أَسْرَعُ انْقِيَادًا مِنْ غَيْرِهَا.
وَفِي ذِكْرِ النَّبِيِّ ﷺ لِذَلِكَ بَعْدَ أَنْ عُلِمَ كَوْنُهُ أَكْرَمَ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ عَظِيمِ التَّوَاضُعِ لِرَبِّهِ وَالتَّصْرِيحِ بِمِنَّتِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى إِخْوَانِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute