وَاسْتَغْرَبَهُ الْبَزَّارُ، وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: هُوَ خَطَأٌ.
قُلْتُ: وَهُوَ مَعْلُولٌ مِنْ حَيْثُ صِنَاعَةُ الْإِسْنَادِ ; لِأَنَّ عَبْدَ الرَّزَّاقِ تَغَيَّرَ بِأَخِرَةٍ، وَسَمَاعُ هَؤُلَاءِ مِنْهُ فِي حَالِ تَغَيُّرِهِ، إِلَّا أَنَّ مِثْلَهُ لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ، وَقَدْ رُوِّينَاهُ مَرْفُوعًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَمَّارٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَلَهُ شَوَاهِدُ أُخْرَى بَيَّنْتُهَا فِي تَعْلِيقِ التَّعْلِيقِ.
قَوْلُهُ: (ثَلَاثٌ) أَيْ: ثَلَاثُ خِصَالٍ، وَإِعْرَابُهُ نَظِيرُ مَا مَرَّ فِي قَوْلِهِ: ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَالْعَالَمُ بِفَتْحِ اللَّامِ وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا جَمِيعُ النَّاسِ، وَالْإِقْتَارُ الْقِلَّةُ، وَقِيلَ الِافْتِقَارُ، وَعَلَى الثَّانِي فَمِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْإِقْتَارِ بِمَعْنَى مَعَ، أَوْ بِمَعْنَى عِنْدَ. قَالَ أَبُو الزِّنَادِ بْنُ سِرَاجٍ وَغَيْرُهُ: إِنَّمَا كَانَ مَنْ جَمَعَ الثَّلَاثِ مُسْتَكْمِلًا لِلْإِيمَانِ لِأَنَّ مَدَارَهُ عَلَيْهَا ; لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا اتَّصَفَ بِالْإِنْصَافِ لَمْ يَتْرُكْ لِمَوْلَاهُ حَقًّا وَاجِبًا عَلَيْهِ إِلَّا أَدَّاهُ، وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا مِمَّا نَهَاهُ عَنْهُ إِلَّا اجْتَنَبَهُ، وَهَذَا يَجْمَعُ أَرْكَانَ الْإِيمَانِ. وَبَذْلُ السَّلَامِ يَتَضَمَّنُ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَالتَّوَاضُعَ وَعَدَمَ الِاحْتِقَارِ، وَيَحْصُلُ بِهِ التَّآلُفُ وَالتَّحَابُبُ، وَالْإِنْفَاقُ مِنَ الْإِقْتَارِ يَتَضَمَّنُ غَايَةَ الْكَرَمِ لِأَنَّهُ إِذَا أَنْفَقَ مِنَ الِاحْتِيَاجِ كَانَ مَعَ التَّوَسُّعِ أَكْثَرَ إِنْفَاقًا، وَالنَّفَقَةُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ عَلَى الْعِيَالِ وَاجِبَةً وَمَنْدُوبَةً، أَوْ عَلَى الضَّيْفِ وَالزَّائِرِ، وَكَوْنُهُ مِنَ الْإِقْتَارِ يَسْتَلْزِمُ الْوُثُوقَ بِاللَّهِ وَالزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا وَقِصَرَ الْأَمَلِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ مُهِمَّاتِ الْآخِرَةِ. وَهَذَا التَّقْرِيرُ يُقَوِّي أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مَرْفُوعًا ; لِأَنَّهُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ كَلَامَ مَنْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
٢١ - بَاب كُفْرَانِ الْعَشِيرِ وَكُفْرٍ دُونَ كُفْرٍ، فِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ.
٢٩ - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: أُرِيتُ النَّارَ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ يَكْفُرْنَ. قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ.
[الحديث ٢٩ - أطرافه في: ٥١٩٧، ٣٢٠٢، ١٠٥٢، ٧٤٨، ٤٣١]
قَوْلُهُ: (بَابُ كُفْرَانِ الْعَشِيرِ، وَكُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ) قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي شَرْحِهِ: مُرَادُ الْمُصَنِّفِ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الطَّاعَاتِ كَمَا تُسَمَّى إِيمَانًا كَذَلِكَ الْمَعَاصِي تُسَمَّى كُفْرًا، لَكِنْ حَيْثُ يُطْلَقُ عَلَيْهَا الْكُفْرُ لَا يُرَادُ الْكُفْرُ الْمُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ. قَالَ: وَخَصَّ كُفْرَانَ الْعَشِيرِ مِنْ بَيْنَ أَنْوَاعِ الذُّنُوبِ لِدَقِيقَةٍ بَدِيعَةٍ وَهِيَ قَوْلُهُ ﷺ لَوْ أَمَرْتُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا. فَقَرَنَ حَقَّ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ بِحَقِّ اللَّهِ، فَإِذَا كَفَرَتِ الْمَرْأَةُ حَقَّ زَوْجِهَا - وَقَدْ بَلَغَ مِنْ حَقِّهِ عَلَيْهَا هَذِهِ الْغَايَةَ - كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى تَهَاوُنِهَا بِحَقِّ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَيْهَا الْكُفْرُ لَكِنَّهُ كُفْرٌ لَا يُخْرِجُ عَنِ الْمِلَّةِ. وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِهِ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ لِأُمُورِ الْإِيمَانِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْكُفْرِ ضِدَّ الْإِيمَانِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَكُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ فَأَشَارَ إِلَى أَثَرٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَغَيْرِهِ. وَقَوْلُهُ: فِيهِ أَبُو سَعِيدٍ أَيْ: يَدْخُلُ فِي الْبَابِ حَدِيثٌ رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ وَفِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ فِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَيْ: مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. وَفَائِدَةُ هَذَا الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ لِلْحَدِيثِ طَرِيقًا غَيْرَ الطَّرِيقِ الْمُسَاقَةِ. وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ أَخْرَجَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الْحَيْضِ وَغَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْهُ، وَفِيهِ قَوْلُهُ ﷺ لِلنِّسَاءِ: تَصَدَّقْنَ، فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ.
فَقُلْنَ: وَلِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، الْحَدِيثَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ أَيْضًا: لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْمَذْكُورُ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَجْرَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute