يَزْعُمُ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُمَا زَنَيَا فِي الْكَعْبَةِ فَمُسِخَا حَجَرَيْنِ فَوُضِعَا عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِيُعْتَبَرَ
بِهِمَا، فَلَمَّا طَالَتِ الْمُدَّةُ عُبِدَا. وَالْبَاقِي نَحْوَهُ. وَرَوَى الْفَاكِهِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى أَبِي مِجْلَزٍ نَحْوَهُ. وَفِي كِتَابِ مَكَّةَ لِعُمَرَ بْنِ شَبَّةَ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: قَالَتِ الْأَنْصَارُ إِنَّ السَّعْيَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَجَرَيْنِ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَنَزَلَتْ. وَمِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ قَالَ: كَانَ النَّاسُ أَوَّلَ مَا أَسْلَمُوا كَرِهُوا الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَنَمٌ فَنَزَلَتْ، فَهَذَا كُلُّهُ يُوَضِّحُ قُوَّةَ رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ وَتَقَدُّمَهَا عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْأَنْصَارُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا فَرِيقَيْنِ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَطُوفُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ رِوَايَةُ أَبِي مُعَاوِيَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ لَا يَقْرَبُهُمَا عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ رِوَايَةُ الزُّهْرِيِّ وَاشْتَرَكَ الْفَرِيقَانِ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى التَّوَقُّفِ عَنِ الطَّوَافِ بَيْنَهُمَا لِكَوْنِهِ كَانَ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا مِنْ أَفْعَالِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَيُجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِهَذَا، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى نَحْوِ هَذَا الْجَمْعِ الْبَيْهَقِيُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهٌ): قَوْلُ عَائِشَةَ: سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَللمَ الطَّوَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. أَيْ فَرَضَهُ بِالسُّنَّةِ، وَلَيْسَ مُرَادُهَا نَفْيَ فَرْضِيَّتِهَا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهَا لَمْ يُتِمَّ اللَّهُ حَجَّ أَحَدِكُمْ وَلَا عُمْرَتَهُ مَا لَمْ يَطُفْ بَيْنَهُمَا.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَخْبَرْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) الْقَائِلُ هُوَ الزُّهْرِيُّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (أنَّ هَذَا الْعِلْمَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، أَيْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْعِلْمُ الْمَتِينُ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ إِنَّ هَذَا لَعِلْمٌ بِفَتْحِ اللَّامِ وَهِيَ الْمُؤَكِّدَةُ وَبِالتَّنْوِينِ عَلَى أَنَّهُ الْخَبَرُ.
قَوْلُهُ: (أنَّ النَّاسَ إِلَّا مَنْ ذَكَرَتْ عَائِشَةُ) إِنَّمَا سَاغَ لَهُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مَعَ أَنَّ الرِّجَالَ الَّذِينَ أَخْبَرُوهُ أَطْلَقُوا ذَلِكَ لِبَيَانِ الْخَبَرِ عِنْدَهُ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ لَهُ عَنْ عُرْوَةَ عَنْهَا، وَمُحَصَّلُ مَا أَخْبَرَ بِهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ الْمَانِعَ لَهُمْ مِنَ التَّطَوُّفِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَلَمْ يَذْكُرِ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا ظَنُّوا رَفْعَ ذَلِكَ الْحُكْمِ فَسَأَلُوا هَلْ عَلَيْهِمْ مِنْ حَرَجٍ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ، بِنَاءً عَلَى مَا ظَنُّوهُ مِنْ أَنَّ التَّطَوُّفَ بَيْنَهُمَا مِنْ فِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ الْمَذْكُورَةِ إِنَّمَا كَانَ مَنْ لَا يَطُوفُ بَيْنَهُمَا مِنَ الْعَرَبِ يَقُولُونَ: إِنَّ طَوَافَنَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَجَرَيْنِ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا شَرَحْنَاهُ أَوَّلًا.
قَوْلُهُ: (فَأَسْمَعُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْفَرِيقَيْنِ) كَذَا فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ بِإِثْبَاتِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ الْعَيْنِ بِصِيغَةِ الْمُضَارَعَةِ لِلْمُتَكَلِّمِ، وَضَبَطَهُ الدِّمْيَاطِيُّ فِي نُسْخَتِهِ بِالْوَصْلِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ فَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ الْمَذْكُورَةِ فَأُرَاهَا نَزَلَتْ وَهُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ أَظُنُّهَا، وَحَاصِلُهُ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ كَانَ لِلرَّدِّ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ الَّذِينَ تَحَرَّجُوا أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَهُمَا لِكَوْنِهِ عِنْدَهُمْ مِنْ أَفْعَالِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَالَّذِينَ امْتَنَعُوا مِنَ الطَّوَافِ بَيْنَهُمَا لِكَوْنِهِمَا لَمْ يُذْكَرَا.
قَوْلُهُ: (حَتَّى ذُكِرَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ) يَعْنِي تَأَخَّرَ نُزُولُ آيَةِ الْبَقَرَةِ فِي الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَنْ آيَةِ الْحَجِّ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي وَغَيْرِهِ حَتَّى ذُكِرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا ذَكَرَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَفِي تَوْجِيهِهِ عُسْرٌ، وَكَأَنَّ قَوْلَهُ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ مَا ذَكَرَ بِتَقْدِيرِ الْأَوَّلِ إِنَّمَا امْتَنَعُوا مِنَ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ دَلَّ عَلَى الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَلَا ذِكْرَ لِلصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِيهِ حَتَّى نَزَلَ ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ بَعْدَ نُزُولِ ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ﴾ وأَمَّا الثَّانِي فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ الطَّوَافُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
٨٠ - بَاب مَا جَاءَ فِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ ﵄: السَّعْيُ مِنْ دَارِ بَنِي عَبَّادٍ إِلَى زُقَاقِ بَنِي أَبِي حُسَيْنٍ