وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَمْ يَتَعَرَّضِ ابْنُ بَطَّالٍ لِمَقْصُودِ الْبَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ احْتَجَّ لِجَوَازِ الْحُكْمِ بِالْعِلْمِ بِقِصَّةِ هِنْدٍ، فَكَانَ يَنْبَغِي لِلشَّارِحِ أَنْ يَتَعَقَّبَ ذَلِكَ بِأَنْ لَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْفُتْيَا وَكَلَامُ الْمُفْتِي يَتَنَزَّلُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ إِنْهَاءِ الْمُسْتَفْتِي، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ يَمْنَعُكَ حَقَّكَ جَازَ لَكَ اسْتِيفَاؤُهُ مَعَ الْإِمْكَانِ.
قَالَ: وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ أَحْوَالِ النَّبِيِّ ﷺ الْحُكْمُ وَالْإِلْزَامُ، فَيَجِبُ تَنْزِيلُ لَفْظِهِ عَلَيْهِ لَكِنْ يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ ﷺ مَا ذَكَرَ فِي قِصَّةِ هِنْدٍ أَنَّهُ يَعْلَمُ صِدْقَهَا، بَلْ ظَاهِرُ الْأَمْرِ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ هَذِهِ الْقِصَّةَ إِلَّا مِنْهَا فَكَيْفَ يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ بِعِلْمِهِ؟ قُلْتُ: وَمَا ادَّعَى نَفْيَهُ بَعِيدٌ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْلَمْ صِدْقَهَا لَمْ يَأْمُرْهَا بِالْأَخْذِ؛ وَاطِّلَاعُهُ عَلَى صِدْقِهَا مُمْكِنٌ بِالْوَحْيِ دُونَ مَنْ سِوَاهُ فَلَا بُدَّ مِنْ سَبْقِ عِلْمٍ، وَيُؤَيِّدُ اطِّلَاعَهُ عَلَى حَالِهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَذْكُرَ مَا ذَكَرَتْ مِنَ الْمُصَاهَرَةِ، وَلِأَنَّهُ قَبِلَ قَوْلَهَا إِنَّهَا زَوْجَةُ أَبِي سُفْيَانَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ وَاكْتَفَى فِيهِ بِالْعِلْمِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ فُتْيَا لَقَالَ مَثَلًا تَأْخُذُ، فَلَمَّا أَتَى بِصِيغَةِ الْأَمْرِ بِقَوْلِهِ خُذِي دَلَّ عَلَى الْحُكْمِ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيدٌ فِي بَابِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ أَيْضًا: لَوْ كَانَ حُكْمًا لَاسْتَدْعَى مَعْرِفَةَ الْمَحْكُومِ بِهِ، وَالْوَاقِعُ أَنَّ الْمَحْكُومَ بِهِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، كَذَا قَالَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
١٥ - بَاب الشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ الْمَخْتُومِ، وَمَا يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا يَضِيقُ عَلَيْهِ
وَكِتَابِ الْحَاكِمِ إِلَى عمالِهِ، وَالْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: كِتَابُ الْحَاكِمِ جَائِزٌ إِلَّا فِي الْحُدُودِ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذَا مَالٌ بِزَعْمِهِ، وَإِنَّمَا صَارَ مَالًا بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ الْقَتْلُ، فَالْخَطَأُ وَالْعَمْدُ وَاحِدٌ. وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ إِلَى عَامِلِهِ فِي الحدود، وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي سِنٍّ كُسِرَتْ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي جَائِزٌ إِذَا عَرَفَ الْكِتَابَ وَالْخَاتَمَ، وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يُجِيزُ الْكِتَابَ الْمَخْتُومَ بِمَا فِيهِ مِنْ الْقَاضِي، وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُهُ. وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الثَّقَفِيُّ: شَهِدْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ يَعْلَى قَاضِيَ الْبَصْرَةِ وَإِيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ وَالْحَسَنَ وَثُمَامَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ وَبِلَالَ بْنَ أَبِي بُرْدَةَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيَّ وَعَامِرَ بْنَ عَبدَةَ وَعَبَّادَ بْنَ مَنْصُورٍ يُجِيزُونَ كُتُبَ الْقُضَاةِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الشُّهُودِ، فَإِنْ قَالَ الَّذِي جِيءَ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ إِنَّهُ زُورٌ، قِيلَ لَهُ: اذْهَبْ فَالْتَمِسْ الْمَخْرَجَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَوَّلُ مَنْ سَأَلَ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَسَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. وَقَالَ لَنَا أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحْرِزٍ جِئْتُ بِكِتَابٍ مِنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ قَاضِي الْبَصْرَةِ وَأَقَمْتُ عِنْدَهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لِي عِنْدَ فُلَانٍ كَذَا وَكَذَا وَهُوَ بِالْكُوفَةِ، وَجِئْتُ بِهِ الْقَاسِمَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَأَجَازَهُ. وَكَرِهَ الْحَسَنُ وَأَبُو قِلَابَةَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى وَصِيَّةٍ حَتَّى يَعْلَمَ مَا فِيهَا لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّ فِيهَا جَوْرًا. وَقَدْ كَتَبَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى أَهْلِ خَيْبَرَ: إِمَّا أَنْ تَدُوا صَاحِبَكُمْ، وَإِمَّا أَنْ تُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ السِّتْرِ: إِنْ عَرَفْتَهَا فَاشْهَدْ وَإِلَّا تعرفها فَلَا تَشْهَدْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute