يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ، وَمَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ. ثُمَّ قَالَتْ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ، فَهَلْ عَلَيَّ مِنْ حَرَجٍ أَنْ أُطْعِمَ مِنْ الَّذِي لَهُ عِيَالَنَا؟ قَالَ لَهَا: لَا حَرَجَ عَلَيْكِ أَنْ تُطْعِمِيهِمْ مِنْ مَعْرُوفٍ.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَنْ رَأَى لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ فِي أَمْرِ النَّاسِ إِذَا لَمْ يَخَفِ الظُّنُونَ وَالتُّهْمَةَ) أَشَارَ إِلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِه فِي حُقُوقِ النَّاسِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ كَالْحُدُودِ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُسَامَحَةِ، وَلَهُ فِي حُقُوقِ النَّاسِ تَفْصِيلٌ، قَالَ: إِنْ كَانَ مَا عَلِمَهُ قَبْلَ وِلَايَتِهِ لَمْ يَحْكُمْ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَا سَمِعَهُ مِنَ الشُّهُودِ وَهُوَ غَيْرُ حَاكِمٍ، بِخِلَافِ مَا عَلِمَهُ فِي وِلَايَتِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ إِذَا لَمْ يَخَفِ الظُّنُونَ وَالتُّهْمَةَ فَقَيَّدَ بِهِ قَوْلَ مَنْ أَجَازَ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ مَنَعُوا ذَلِكَ مُطْلَقًا اعْتَلُّوا بِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ فَيَجُوزُ أَنْ تَلْحَقَهُ التُّهْمَةُ إِذَا قَضَى بِعِلْمِهِ أَنْ يَكُونَ حَكَمَ لِصَدِيقِهِ عَلَى عَدُوِّهُ فَحُسِمَتِ الْمَادَّةُ، فَجَعَلَ الْمُصَنِّفُ مَحَلَّ الْجَوَازِ مَا إِذَا لَمْ يَخَفِ الْحَاكِمُ الظُّنُونَ وَالتُّهْمَةَ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الْمَنْعِ مِنْ أَجْلِ حَسْمِ الْمَادَّةِ أَنْ يَسْمَعَ مَثَلًا رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلَاقًا بَائِنًا.
ثُمَّ رَفَعَتْهُ إِلَيْهِ فَأَنْكَرَ، فَإِذَا حَلَّفَهُ فَحَلَفَ لَزِمَ أَنْ يُدِيمَهُ عَلَى فَرْجٍ حَرَامٍ فَيَفْسُقَ بِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْ أَنْ لَا يَقْبَلَ قَوْلَهُ وَيَحْكُمَ عَلَيْهِ بِعِلْمِهِ، فَإِنْ خَشِيَ التُّهْمَةَ فَلَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ وَيُقِيمَ شَهَادَتَهُ عَلَيْهِ عِنْدَ حَاكِمٍ آخَرَ، وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِذَلِكَ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ تَكُونُ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَقَالَ الْكَرَابِيسِيُّ: الَّذِي عِنْدِي أَنَّ شَرْطَ جَوَازِ الْحُكْمِ بِالْعِلْمِ أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ مَشْهُورًا بِالصَّلَاحِ وَالْعَفَافِ وَالصِّدْقِ وَلَمْ يُعْرَفْ بِكَبِيرِ زَلَّةٍ وَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِ خَرِبَةٌ بِحَيْثُ تَكُونُ أَسْبَابُ التُّقَى فِيهِ مَوْجُودَةً وَأَسْبَابُ التُّهَمِ فِيهِ مَفْقُودَةً، فَهَذَا الَّذِي يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ مُطْلَقًا. قُلْتُ: وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخَذَ ذَلِكَ عَنْهُ فَإِنَّهُ مِنْ مَشَايِخِهِ.
قَوْلُهُ: (كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِهِنْدٍ: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ) هَذَا اللَّفْظُ وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي النَّفَقَاتِ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَقَدْ سَاقَ الْقِصَّةَ فِي هَذَا الْبَابِ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ وَقَوْلُهُ وَذَلِكَ إِذَا كَانَ أَمْرًا مَشْهُورًا هَذَا تَفْسِيرُ قَوْلِ مَنْ قَالَ يَقْضِي بِعِلْمِهِ مُطْلَقًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمَشْهُورِ الشَّيْءُ الْمَأْمُورُ بِأَخْذِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ هند بِنْتِ عُتْبَةَ.
قَوْلُهُ (مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَخْ) تَقَدَّمَ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ فِي الْمَنَاقِبِ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ مَا تَضَمَّنَهُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فِي كِتَابِ النَّفَقَاتِ وَفِيهِ بَيَانُ اسْتِدْلَالِ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِعِلْمِهِ وَرَدُّ قَوْلِ الْمُسْتَدِلِّ بِهِ عَلَى الْحُكْمِ عَلَى الْغَائِبِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: احْتَجَّ مَنْ أَجَازَ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ بِحَدِيثِ الْبَابِ، فَإِنَّهُ ﷺ قَضَى لَهَا بِوُجُوبِ النَّفَقَةِ لَهَا وَلِوَلَدِهَا لِعِلْمِهِ بِأَنَّهَا زَوْجَةُ أَبِي سُفْيَانَ وَلَمْ يَلْتَمِسْ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً، وَمِنْ حَيْثُ النَّظَرُ أَنَّ عِلْمَهُ أَقْوَى مِنَ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُ يَتَيَقَّنُ مَا عَلِمَهُ، وَالشَّهَادَةُ قَدْ تَكُونُ كَذِبًا، وَحُجَّةُ مَنْ مَنَعَ قَوْلُهُ في حَدِيث أُمِّ سَلَمَةَ إِنَّمَا أَقْضِي لَهُ بِمَا أَسْمَعُ وَلَمْ يَقُلْ بِمَا أَعْلَمُ.
وَقَالَ لَلْحَضْرَمِيِّ شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ وَفِيهِ وَلَيْسَ لَكَ إِلَّا ذَلِكَ وَلِمَا يُخْشَى مِنْ قُضَاةِ السُّوءِ أَنْ يَحْكُمَ أَحَدُهُمْ بِمَا شَاءَ وَيُحِيلَ عَلَى عِلْمِهِ احْتَجَّ مَنْ مَنَعَ مُطْلَقًا بِالتُّهْمَةِ، وَاحْتَجَّ مَنْ فَصَّلَ بِأَنَّ الَّذِي عَلِمَهُ الْحَاكِمُ قَبْلَ الْقَضَاءِ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الشَّهَادَةِ، فَلَوْ حَكَمَ بِهِ لَحَكَمَ بِشَهَادَةِ نَفْسِهِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَضَى بِدَعْوَاهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَأَيْضًا فَيَكُونُ كَالْحَاكِمِ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ تَعْلِيلٌ آخَرُ، وَأَمَّا فِي حَالِ الْقَضَاءِ فَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ فَإِنَّمَا أَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ سَمَاعِهِ مِنْ شَاهِدٍ أَوْ مُدَّعٍ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ الْمَذَاهِبِ فِي الْحُكْمِ بِالْعِلْمِ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ تَكُونُ عِنْدَ الْحَاكِمِ فِي وِلَايَةِ الْقَضَاءِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute