للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

الْمَعْنَى أَنَّ الصَّبْرَ الَّذِي يُحْمَدُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ مَا كَانَ عِنْدَ مُفَاجَأَةِ الْمُصِيبَةِ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ عَلَى الْأَيَّامِ يَسْلُو. وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ عَنْ غَيْرِهِ أَنَّ الْمَرْءَ لَا يُؤْجَرْ عَلَى الْمُصِيبَةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ صُنْعِهِ، وَإِنَّمَا يُؤْجَرْ عَلَى حُسْنِ تَثَبُّتِهِ وَجَمِيلِ صَبْرِهِ. وَقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: أَرَادَ أَنْ لَا يَجْتَمِعَ عَلَيْهَا مُصِيبَةُ الْهَلَاكِ، وَفَقْدُ الْأَجْرِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: صَدَرَ هَذَا الْجَوَابُ مِنْهُ عَنْ قَوْلِهَا: لَمْ أَعْرِفْكَ عَلَى أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: دَعِي الِاعْتِذَارَ فَإِنِّي لَا أَغْضَبُ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَانْظُرِي لِنَفْسِكِ. وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: فَائِدَةُ جَوَابِ الْمَرْأَةِ بِذَلِكَ أَنَّهَا لَمَّا جَاءَتْ طَائِعَةً لِمَا أَمَرَهَا بِهِ مِنَ التَّقْوَى وَالصَّبْرِ، مُعْتَذِرَةً عَنْ قَوْلِهَا الصَّادِرِ عَنِ الْحُزْنِ، بَيَّنَ لَهَا أَنَّ حَقَّ هَذَا الصَّبْرِ أَنْ يَكُونَ فِي أَوَّلِ الْحَالِ، فَهُوَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ. انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورَةِ: فَقَالَتْ أَنَا أَصْبِرُ، أَنَا أَصْبِرُ.

وَفِي مُرْسَلِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ الْمَذْكُورِ، فَقَالَ: اذْهَبِي إِلَيْكِ، فَإِنَّ الصَّبْرَ عِنْدَ الصَّمَدةِ الْأُولَى. وَزَادَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِيهِ مِنْ مُرْسَلِ الْحَسَنِ: وَالْعَبْرَةُ لَا يَمْلِكُهَا ابْنُ آدَمَ. وَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ الْمَذْكُورَةُ تَأَخَّرَتْ بَعْدَ الدَّفْنِ عِنْدَ الْقَبْرِ، وَالزِّيَارَةُ إِنَّمَا تُطْلَقُ عَلَى مَنْ أَنْشَأَ إِلَى الْقَبْرِ قَصْدًا مِنْ جِهَةِ اسْتِوَاءِ الْحُكْمِ فِي حَقِّهَا، حَيْثُ أَمَرَهَا بِالتَّقْوَى وَالصَّبْرِ لِمَا رَأَى مِنْ جَزَعهَا، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا الْخُرُوجَ مِنْ بَيْتِهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ خُرُوجُهَا لِتَشْيِيعِ مَيِّتِهَا، فَأَقَامَتْ عِنْدَ الْقَبْرِ بَعْدَ الدَّفْنِ، أَوْ أَنْشَأَتْ قَصْدَ زِيَارَتِهِ بِالْخُرُوجِ بِسَبَبِ الْمَيِّتِ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ: مَا كَانَ فِيهِ مِنَ التَّوَاضُعِ وَالرِّفْقِ بِالْجَاهِلِ، وَمُسَامَحَةُ الْمُصَابِ وَقَبُولُ اعْتِذَارِهِ، وَمُلَازَمَةُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَفِيهِ: الْقَاضِي لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَّخِذَ مَنْ يَحْجُبُهُ عَنْ حَوَائِجِ النَّاسِ، وَأَنَّ مَنْ أُمِرَ بِمَعْرُوفٍ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْبَلَ وَلَوْ لَمْ يَعْرِفِ الْآمِرَ. وَفِيهِ أَنَّ الْجَزَعَ مِنَ الْمَنْهِيَّاتِ لِأَمْرِهِ لَهَا بِالتَّقْوَى مَقْرُونًا بِالصَّبْرِ. وَفِيهِ التَّرْغِيبُ فِي احْتِمَالِ الْأَذَى عِنْدَ بَذْلِ النَّصِيحَةِ وَنَشْرِ الْمَوْعِظَةِ، وَأَنَّ الْمُوَاجَهَةَ بِالْخِطَابِ إِذَا لَمْ تُصَادِفِ الْمَنْوِيَّ لَا أَثَرَ لَهَا. وَبَنَى عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ مَا إِذَا قَالَ: يَا هِنْدُ، أَنْتِ طَالِقٌ. فَصَادَفَ عَمْرَةَ أَنَّ عَمْرَةَ لَا تُطَلَّقُ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ سَوَاءٌ كَانَ الزَّائِرُ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً كَمَا تَقَدَّمَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَزُورُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، لِعَدَمِ الِاسْتِفْصَالِ فِي ذَلِكَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَبِالْجَوَازِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: لَا تَجُوزُ زِيَارَةُ قَبْرِ الْكَافِرِ، وَهُوَ غَلَطٌ. انْتَهَى. وَحُجَّةُ الْمَاوَرْدِيِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ﴾ وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى.

(تَنْبِيهٌ): قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: قَدَّمَ الْمُصَنِّفُ تَرْجَمَةَ زِيَارَةِ الْقُبُورِ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ أَحْكَامِ تَشْيِيعِ الْجِنَازَةِ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَقَدَّمُ الزِّيَارَةَ، لِأَنَّ الزِّيَارَةَ يَتَكَرَّرُ وُقُوعُهَا فَجَعَلَهَا أَصْلًا وَمِفْتَاحًا لِتِلْكَ الْأَحْكَامِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَأَشَارَ أَيْضًا إِلَى أَنَّ مُنَاسَبَةَ تَرْجَمَةِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ تُنَاسِبُ اتِّبَاعَ النِّسَاءِ الْجَنَائِزَ، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ حَصْرَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِخُرُوجِ النِّسَاءِ مُتَوَالِيَةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

٣٢ - باب قَوْلِ النَّبِيِّ يُعَذَّبُ الْمَيِّتُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ النَّوْحُ مِنْ سُنَّتِهِ

لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ وَقَالَ النَّبِيُّ : كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ سُنَّتِهِ فَهُوَ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ : ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: ﴿وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ﴾ ذُنُوبًا ﴿إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ﴾ وَمَا يُرَخَّصُ مِنْ الْبُكَاءِ من غَيْرِ نَوْحٍ، وَقَالَ النَّبِيُّ : لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا، إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ