وَلِهَذَا رَتَّبَ الْعَذَابَ عَلَى مَا ذَكَرَ مِنَ الْكُفْرَانِ وَغَيْرِهِ لَا عَلَى النَّقْصِ، وَلَيْسَ نَقْصُ الدِّينِ مُنْحَصِرًا فِيمَا يَحْصُلُ بِهِ
الْإِثْمُ بَلْ فِي أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ قَالَهُ النَّوَوِيُّ ; لِأَنَّهُ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ، فَالْكَامِلُ مَثَلًا نَاقِصٌ عَنِ الْأَكْمَلِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْحَائِضُ لَا تَأْثَمُ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ زَمَنَ الْحَيْضِ لَكِنَّهَا نَاقِصَةٌ عَنِ الْمُصَلِّي، وَهَلْ تُثَابُ عَلَى هَذَا التَّرْكِ لِكَوْنِهَا مُكَلَّفَةً بِهِ كَمَا يُثَابُ الْمَرِيضُ عَلَى النَّوَافِلِ الَّتِي كَانَ يَعْمَلُهَا فِي صِحَّتِهِ وَشُغِلَ بِالْمَرَضِ عَنْهَا؟ قَالَ النَّوَوِيُّ: الظَّاهِري أَنَّهَا لَا تُثَابُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَرِيضِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهَا بِنِيَّةِ الدَّوَامِ عَلَيْهَا مَعَ أَهْلِيَّتِهِ، وَالْحَائِضُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ. وَعِنْدِي - فِي كَوْنِ هَذَا الْفَرْقِ مُسْتَلْزِمًا لِكَوْنِهَا لَا تُثَابُ - وَقْفَةٌ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا مُرَاجَعَةُ الْمُتَعَلِّمِ لِمُعَلِّمِهِ وَالتَّابِعِ لِمَتْبُوعِهِ فِيمَا لَا يَظْهَرُ لَهُ مَعْنَاهُ، وَفِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ ﷺ مِنَ الْخُلُقِ الْعَظِيمِ وَالصَّفْحِ الْجَمِيلِ وَالرِّفْقِ وَالرَّأْفَةِ، زَادَهُ اللَّهُ تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا وَتَعْظِيمًا.
٧ - بَاب تَقْضِي الْحَائِضُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إِلَّا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: لَا بَأْسَ أَنْ تَقْرَأَ الْآيَةَ. وَلَمْ يَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالْقِرَاءَةِ لِلْجُنُبِ بَأْسًا، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَذْكُرُ اللَّهَ في كُلِّ أَحْيَانِهِ، وَقَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ يَخْرُجَ الْحُيَّضُ فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ وَيَدْعُونَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ دَعَا بِكِتَابِ النَّبِيِّ ﷺ فَقَرَأَ فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَ ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ﴾ الْآيَةَ، وَقَالَ عَطَاءٌ عَنْ جَابِرٍ: حَاضَتْ عَائِشَةُ فَنَسَكَتْ الْمَنَاسِكَ غَيْرَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَلَا تُصَلِّي، وَقَالَ الْحَكَمُ: إِنِّي لَأَذْبَحُ وَأَنَا جُنُبٌ، وَقَالَ اللَّهُ تعالى ﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾
٣٠٥ - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ لَا نَذْكُرُ إِلَّا الْحَجَّ، فَلَمَّا جِئْنَا سَرِفَ طَمِثْتُ، فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ ﷺ وَأَنَا أَبْكِي، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكِ؟ قُلْتُ: لَوَدِدْتُ وَاللَّهِ أَنِّي لَمْ أَحُجَّ الْعَامَ. قَالَ: لَعَلَّكِ نُفِسْتِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنَّ ذَلِكِ شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَافْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي.
قَوْلُهُ: (بَابُ تَقْضِي الْحَائِضُ) أَيْ تُؤَدِّي (الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إِلَّا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ) قِيلَ: مَقْصُودُ الْبُخَارِيِّ بِمَا ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ أَنَّ الْحَيْضَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْجَنَابَةِ لَا يُنَافِي جَمِيعَ الْعِبَادَاتِ، بَلْ صَحَّتْ مَعَهُ عِبَادَاتٌ بَدَنِيَّةٌ مِنْ أَذْكَارٍ وَغَيْرِهَا، فَمَنَاسِكُ الْحَجِّ مِنْ جُمْلَةِ مَا لَا يُنَافِيهَا إِلَّا الطَّوَافَ فَقَطْ.
وَفِي كَوْنِ هَذَا مُرَادَهُ نَظَرٌ ; لِأَنَّ كَوْنَ مَنَاسِكِ الْحَجِّ كَذَلِكَ حَاصِلٌ بِالنَّصِّ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ، وَالْأَحْسَنُ مَا قَالَهُ ابْنُ رَشِيدٍ تَبَعًا لِابْنِ بَطَّالٍ وَغَيْرِهِ: إِنَّ مُرَادَهُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى جَوَازِ قِرَاءَةِ الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ ﵂ ; لِأَنَّهُ ﷺ لَمْ يَسْتَثْنِ مِنْ جَمِيعِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ إِلَّا الطَّوَافَ، وَإِنَّمَا اسْتَثْنَاهُ لِكَوْنِهِ صَلَاةً مَخْصُوصَةً، وَأَعْمَالُ الْحَجِّ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى ذِكْرٍ وَتَلْبِيَةٍ وَدُعَاءٍ، وَلَمْ تُمْنَعِ الْحَائِضُ مِنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ الْجُنُبُ ; لِأَنَّ حَدَثَهَا أَغْلَظُ مِنْ حَدَثِهِ، وَمَنْعُ الْقِرَاءَةِ إِنْ كَانَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute